صفحات الرأي

«وبعدين»…/ موسى برهومة

 

 

«وبعدين؟» صرخة أطلقها الممثل الأردني زهير النوباني في مسرحية حملت الاسم نفسه، وعرضت خلال رمضان الماضي، وتلخّص أحوال الكائن العربي، وترسم سيرورة المآلات الاضطرارية التي تقوده إليها خطاه التائهة.

ولعل ذلك السؤال الذي تفتح مصراعيه هذه العبارة، يشير إلى حالة الضياع واليأس التي تسيّج أحوال العرب في هذه القنطرة من أعمارهم، وترسم، بألوان الفحم، مصائر أقطار لا يبدو أن حظها من النجاة سيكون أكثر من حظ مواطنيها الذين إن لم يصبهم العجز، فإن قدراتهم على رد الأذى وتغيير المنكر أضحت أقل من حصرها بالقلب. لأن الأخير مرشح للانفجار في أية لحظة.

العرب العاربة في هذه اللحظة الملتبسة مهددون بغدهم الذي تتخطّفه أصوات القنابل، والاقتتالات الإثنية والأهلية، والنزعات الانفصالية، وسيادة منطق التخوين والأبلسة، وظهور جماعات صنعتها أجهزة المخابرات تزعم النطق بالإسلام، واحتكار الحق الحصري في تطبيقه، مع أن الإسلام الذي يزعمونه لا يتجاوز إسلام الكهوف والتوحش.

وليس ثمة أي دولة عربية في منأى عن الصراع، حتى تلك الدول التي تتمتع بحظ وافر من الأمن والأمان والرفاه، لأن «الإرهاب الديني» يضرب في كل مكان، ولأن حمّى الدين وأدلجة تعاليم الإسلام ومنطوقه عابرة للأوطان والجغرافيا. إن قول الإمام، أو الولي الفقيه مقدّم على قول القائد السياسي، أو الكاتب أو المحلل أو المدرّس أو الأب. إن الأول يعد بالجنة، والآخرين يزيّنون لك الدنيا التي هي جنة الكافر ونار المسلم.

إن حماية المجتمعات العربية من حرائق التطرف لا يكون فقط بالردع العسكري وجهود أجهزة المخابرات فقط، بل إن الأهم من ذلك هو تفكيك خطاب التكفير والتأثيم والنظر إلى العالم من ثقب الإبرة باعتباره فسطاطين: دار إسلام ودار كفر.

فماذا أعدت تلك المجتمعات لمواجهة هذا الخطر الداهم الذي يحتمي بالمقدس من أجل ارتكاب كل ما هو مدنّس، وخارج تعاليم الإسلام ومقاصده السمحة، لمصلحة إنتاج خطاب غوغائي رعاعي ينتزع من الإنسان أدنى ما في طبقاته السفلية من بهيمية وذكورية سقيمة، حتى أضحى العقل في حكم الميت سريرياً، وتسيّدت الغرائز وطغت وتجبّرت.

إنهم يحاربوننا بالنص الديني، فلنحاربهم بالنص نفسه، فهو «حمّال أوجه» بتعبير الإمام علي بن أبي طالب، أو كما رُوي عن النبي الكريم «القرآن ذَلولٌ ذو وجوه، فاحملوه على أحسن الوجوه». فلنحمل القرآن على أحسن الوجوه، ونستبين ما فيه من قيم ونصوص تقوّض خطاب التكفير وقطع الرقاب وبيع النساء في سوق النخاسة، وتهجير المسيحيين، واتخاذ ممتلكاتهم غنائم حرب.

لقد خاضت كوكبة من المفكرين العرب والمسلمين في نزاع مع التفسيرات التعسفية للنص القرآني، واشتبكت مع روح الإسلام باعتباره منصة لرقي الأخلاق وتقديس الإنسان، وإشاعة روح التسامح بين البشر. وكانت «العهدة العمرية» محطة أساسية في هذا السياق، فقد أعطى الخليفة عمر بن الخطاب لما فتح القدس عام 638 للميلاد، أهل المدينة «أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها… انه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم…».

إذاً، على هذه نبني ونؤسس، يرفدنا تاريخ مشع من قراءات تأويلية متعددة للإسلام أنجزها باحثون مقاومون منهم من خسر حياته كالسوداني محمود محمد طه الذي أعدمه جعفر النميري عام 1985 لأنه فكر خارج السرب، وطالب في كتابه «الرسالة الثانية من الإسلام» بإعادة الاعتبار الى الآيات التي نزلت في صدر الدعوة بمكة باعتبارها روح الإسلام، لأنها تشعّ بقيم العدل والتسامح التي جرى نسخها لمصلحة آيات السيف. إنهم يعتقدون أن بمقدور المرء أن يشرب من ماء النهر مرتين، ويلقي الخطبة ذاتها وبالكيفية نفسها التي كان عليها الخليفة أبو بكر الصدّيق.

الإقامة في الماضي هو طموح هؤلاء ومبرر مشروعيتهم. فهل نقف مكتوفي الأيدي، مسدودي الأفواه، مغلقي العقول، إزاء هذا الفكر الظلامي الذي سيجعل صفة المسلم معادلة ومساوية لصفة المتوحش الذي لا يهدد دينه ومجتمعه وحسب، بل الإنسانية جمعاء؟!

* كاتب وأكاديمي أردني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى