الديموقراطية المستحيلة في سوريا “الجهادية” والمدمَّرة؟/ جهاد الزين
اندثرت النخب العلمانية الليبرالية اليسارية القديمة في أفغانستان ولا تزال بقاياها “مشلولة” وربما “منقرضة” التأثير في عواصم أوروبا وأميركا. هذا ما بدأ يحصل للنخبة المدنية السورية وشتاتها الغربي. فهل أصبح شعار “نظام ديموقراطي” لسوريا المستقبلية مستحيلاً بعد التغيرات العميقة الجارية في المجتمع السوري والمرجّح أن تكون “محروسةً” بسياسة غربية لحرب طويلة الأمد في سوريا؟
قرأتُ هذا الأسبوع مقالين لاثنين من أبرز باحثي السياسة الخارجية الأميركية هما ريتشارد هاس وروبيرت كابلان. الأول، هاس، أكثر اتصالاً ب”مؤسّسة” السياسة الخارجية الأميركية وهو رئيس مجلس العلاقات الخارجية الذي تصدر عنه “فورين أفيرز” أهم مجلة أميركية للتفكير السياسي الاستراتيجي، والثاني، كابلان، كبير المحلّلين الجيوبوليتيكيّين في مؤسسة “ستراتفور” وصاحبُ الكتابِ المميّزِ الرؤيةِ بعد انتهاء “الحرب الباردة” والمعنوَن: “الفوضى القادمة” وفيه تنبّأ مبكرا بأن العديد من دول العالم ستتحوّل إلى مناطق مستحكمة الفوضى حيث سيسود لاعبون غير دولتيّين فيما تضعف سلطة الدولة لصالح تنظيمات أيديولوجية متطرّفة وعصابات خارجة على القانون.
مقالة ريتشارد هاس في عدد أيار – حزيران قبل الأخير من “فورين أفيرز” تحت عنوان: “سخرية الاستراتيجيّة الأميركية” تقول أن واشنطن عندما لم تكن ملزمة بالانخراط المباشر في مشاكل الشرق الأوسط اتخذت قرار الانخراط في العراق، وعندما أصبحت راغبة بالخروج من المنطقة لم تعد قادرة على الخروج. وهو يعتبر أنه في الزمن الحالي لم يعد الشرق الأوسط منطقة منافسة حاسمة للولايات المتحدة من قوة عظمى وهو أيضا خالٍ من أي “قوة رئيسية” عالمية.
هذه نظرة تقلّل كثيرا من قيمة الرأي القائل بالوزن الاستراتيجي للصراع الدولي في منطقتنا منظوراً إليه من مستوى الدولة العظمى الكبرى في العالم. ريتشارد هاس يؤيد الانتقال الأميركي إلى التركيز على آسيا وتحديات القوة الصينية الصاعدة داعيا الإدارة الأميركية ليس فقط إلى إعادة التوازن بين “المناطق” بل أيضا بين متطلّبات الداخل الأميركي والخارج والاقتصاد أساس ذلك.
أما كابلان فيقوم مقاله “الأخير” تحت عنوان: “هل الفوضى العربية مشكلة أميركا؟” على الجواب بأن من مصلحة أميركا حصول هذه الفوضى من ناحية أن تنظيم “القاعدة” والتنظيمات الجهادية المتطرّفة تنشغل بنفسها في المناطق غير الآمنة حيث سلطة الدولة ضعيفة وبالتالي فإنها لا تعود قادرةً على التخطيط ضد أهداف غربية وأميركية كبرى. وهو يعتبر مصر– سيناء كسوريا كالعراق بلدانا في حالات غير قادرة على توجيه أي تهديد لإسرائيل. وهو يخلص إلى استخلاص ساخر في مقاله بأن الرئيس باراك أوباما الذي يُنتقَد اليوم بسبب عدم تدخّله في سوريا، سيُمتدح في المستقبل لأنه لم يتدخّل! (الكاتب اليميني دانيال بايبس كان ربما من أوائل من طالبوا بأن تبقى واشنطن خارج الصراع في سوريا معدّدا “الفوائد” التي يجنيها الغرب ومنها تعطيل القدرات العربية ضد اسرائيل لأطول مدى ممكن وتوجيه النقمة العربية على روسيا والصين وإبقاء العرب السنة في حالة اعتبار الشيعة وليس أميركا أو إسرائيل عدوَّهم الأول: 6/13/ 2012 في “الناشونال بوست”).
هذا النوع من الاتجاهات الأميركية الجادة في تحليل واقتراح المسار الأكثر ملاءمةً للمصالح الأميركية يدفع إلى التوقّع بأن الولايات المتحدة الأميركية مهيّأةٌ (وربما تخطّط) لتَحَمُّل الصراع في سوريا فترة طويلة جدا. والوقائع على الأرض، باتت تجعل أصلا،هذه الإطالة مهمّةً غير صعبة. مدنٌ مدمّرة ترتسم فيها خطوط تماس شبه ثابتة، فرز عسكري لخطوط تواصلٍ تسيطر عليها “الجبهتان” المتصارعتان بما يرسم منطق نفوذ ثابتة أبرزها:خط اللاذقية دمشق مرورا بحمص بالنسبة للنظام، أما بالنسبة للمعارضة فهو خط ريف حلب وجزء من المدينة وريف إدلب الملاصق لمنطقة “هاتاي” التركية (اسكندرون) التي تشكّل بطبيعتها اختراقاً لعمق الخارطة السورية الشمالية وتمنح “منطقةً آمنة” طبيعية لا داعي للبحث عنها في مناطق أخرى.
استخدم ماجد كيالي قبل أيام تعبير “اختفاء المجتمع السوري”. يمس هذا التعبيرُ الواقعَ بنسبة أو بأخرى. لم ولن تختفي الديموغرافيا السورية بل تفيض بفعل الحرب على الدول المحيطة وخصوصا لبنان كما يفيض البحر بعد زلزال. لكن المجتمع السوري قد يكون “اختفى” بمعنى ما، أي ذلك النسيج الذي وحّدته ثقافة كيانية قادتها بورجوازية المدن وخطفها الجيش عبر طبقته الوسطى الريفية.
هذا “المجتمع” السابق مهدّدٌ عبر قنوات حرب ذات طبيعة أفغانية بأن يدخل في مسار لا علاقة له بالمسار الأصلي الذي تفجّرت من أجله الثورة وهو الديموقراطية.
كانت هناك قبل اندلاع حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي نخبة مدينيّة في كابول حاملة لهموم حداثية كوزموبوليتية رفيعة المستوى. أين أصبحت الآن وقد ثبت أن المجتمع الأفغاني لم يتغيّر فحسب في الحرب المديدة ولم يسيطر عليه جيلان من الإسلاميين الثاني الشاب أكثر رجعية وظلامية من الأول، فحسب، بل اندثرت النخبة العلمانية الليبرالية اليسارية القديمة ولا تزال بقاياها – ربما مثل ما بدأ يحصل لسوريّي الشتات الغربي- في عواصم أوروبا وأميركا.
إنها حرب طاحنة ومديدة بـ”حماية” دولية كما يمكن أن نقرأ الاتجاهات الأميركية الصريحة “الجديدة”… هل نكذب على أنفسنا إذا قلنا أنه لا زال ممكنا أن يكون بديل حزب البعث وحكم النظام الأمني بقيادة بشار الأسد هو حكم مدني ديموقراطي؟
أخطر ما في تطور عسكرة الثورة السورية أن فكرة “تغيير النظام”- وهي فكرة مدنيّي المعارضة في الأساس- لم تعد تصلح كأفق تغييري في ظل انفجار الريف السوري الهائل والفقير كبيئة حاضنة ومولّدة للأنماط الأكثر ظلامية من الجهادية العالمية. كلنا نعلم أن “النظام” بما عهدناه سقط وما يحدث الآن من الزاوية الداخلية هو إعادة تفكّك سوريا إلى عناصرها الأولى ومن الزاوية الإقليمية حرب ضروس بين الإيرانيين الذي نجحوا بتحريك وتنظيم “العصبيّة الشيعية” في المنطقة إلى مستويات غير مسبوقة ومنها تحويل “حزب الله”، فرقة “النخبة العسكرية” التي ترّبت على الصراع مع إسرائيل في وجهة جديدة هي فرقة كوماندوس في الحرب الأهلية الدائرة في المنطقة… وبين السعوديّين الذين أظهروا قدرةً تعبوية عسكرية وسياسية هجوميّة لـ”العصبية السنية” أربكت الإيرانيين في أكثر من ساحة ودفعتهم إلى مواجهة “الجهادية” المقاتلة بإعادة تموضع من البصرة إلى الناقورة (وإنه لمن المدهش في هذا “الجو” أن تكون البراغماتية الأردوغانية في تركيا قد وصلت إلى حد تحالف واسع حقيقي مع هذه الظلاميات). وعلى المستوى الدولي قرار روسي ثابت بكسر مد “الربيع الإسلامي” الإفريقي على شواطئ سوريا الآسيوية.
معنى الثورة السورية محتاجٌ إلى إنقاذ بعيداً عن “الإرهاب” الثقافي الذي تمارسه بعض أطراف المعارضة. السؤال الكبير جدا الذي يحتاج إلى شجاعة واستقلالية عالية هو: هل أصبحت الديموقراطية في سوريا مستحيلة؟ إنه سؤالٌ مبكرٌ جداً ومتأخِّرٌ جدا في آن.
النهار