صفحات العالم

لبنان: العبور إلى لا شيء/ سامر فرنجيّة

 

 

 

فيما كان الوزير اللبناني وائل أبو فاعور يدقّق في سلامة الغذاء، باحثاً في دواجننا عن سرّ دولة ومواطنيها «غير المطابقين»، كان حزبه، ومعه بقية الأحزاب اللبنانية، يخططون للقضاء على ما يمكن أن يكون أنجح تجربة نقابية في السنوات الأخيرة، أعادت للدولة بعضاً من الاعتبار من خلال جعلها مركزاً للصراع. فتحالف «قتلة الشهيد» مع «عملاء حرب تموز» متناسين خلافاتهم وحربهم المفتوحة في سورية وجارّين من ورائهم أحزابهم المسيحية المتصارعة، للقضاء على حنّا غريب، ومن خلاله على التحرّكات الاجتماعية التي استطاعت أن تصمد لسنوات طويلة. لقد ارتكب غريب الخطيئة الكبرى عندما تطاول على نظام اقتصادي ومؤسساته المصرفية، وجاء الردّ بشكل توافق سياسي لم يشهده البلد منذ عقد.

في الوقت ذاته، ولكنْ في مكان آخر بدا كأنه خارج لبنان وعنصريته، التأم المؤتمر التأسيسي لإنشاء نقابة العاملات والعمال في الخدمة المنزلية، وحضره عشرات العمّال والعاملات الأجانب على رغم تهديدات وزارة عمل. ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، يقدّر عدد إجمالي عمال المنازل في لبنان بحوالى ٢٠٠ ألف عامل وعاملة، مستثنين من قانون العمل اللبناني بموجب المادة السابعة منه، ومعرضين لأبشع أنواع التعامل. غير أنّ هذه الفسحة الضئيلة من الأمل بهذا النهار النقابي (الأسود في نظر البعض) لم تدم، إذ رفضت وزارة العمل الاعتراف بالنقابة الجديدة، مفضلةً «القوانين الحديثة» التي اشتهرت بصون العلاقات القديمة، خاصة بعد تعاقب عدد من الوزراء الصادرين عن أحزاب معروفة بعدائها للعمل النقابي. حاول العّمال الأجانب العبور إلى الدولة في لحظة يهجرها كثيرون من شبّانها للقتال في سورية، غير أنّ أبوابها باتت مغلقة في وجه من يريد الدخول.

جاءت هاتان التجربتان في أعقاب نكسات أخرى، بينها قرار وزير الداخلية نهاد المشنوق بالانقضاض على الزواج المدني من خلال ترحيله وترحيل الراغبين به إلى قبرص غير البعيدة، بعدما أُدخِل هذا المبدأ «خلسة» في النظام اللبناني. العبور المدني إلى الدولة أيضاً بات ممنوعاً، لقرب قبرص وسهولة العبور إليها.

فضحت هذه التجارب حدود العمل المطلبي في لبنان، أكان ناتجاً من مواجهة نقابية أو صادراً عن مؤسسات المجتمع المدني أو الدولي أو نابعاً من تلاعب قانوني، ليصبح الإصلاح، مهما كان طفيفاً، مستحيلاً في ظل نظام تخشّب إلى درجة تجعل الفارق بين ذاك الإصلاح وبين الثورة شبه معدوم. ويأتي هذا الإنسداد في العمل المطلبي في لحظة باتت تتصدّر فيها «المسألة الإجتماعية» سلّم الألويات، بخاصة منذ بداية مرحلة تجميد السياسة، بحيث بدا أنها تطغى على العناوين «السياسية» المتداعية، كالسيادة والمقاومة والحقيقة.

انسداد الأفق هذا يطرح مسألة «تسييس» العمل المطلبي كضرورة ملحّة، بخاصة بعد فشل محاولات البعض تحميل أحد التحالفين الرئيسين مضموناً إجتماعياً، وفي ظل الموت السريري للحزب الذي يُفترض به ربط هذا البعد الإجتماعي بالسياسة. وإذا كان الرهان على قدرة الأحزاب على ترجمة الإجتماعي سياسياً قد فشلت، باتت محاولة استبدالها من خلال المشاركة في الإنتخابات النيابية أيضاً غير مجدية، في ظل التأجيل المتكرر لها، وبدا عقم خيار كهذا يقوم على استبدال السياسة ومشاريعها بأخلاقوية الميزات «الطيبة» للمرشح الشاب. أمّا الاتّكال على بعض الرموز الرسمية للإصلاح التي أدخلت خلسة إلى الحكومة، فهذا أيضاً باتت طريقه مسدودة، كما تشير تجارب بعض الوزراء «الإصلاحيين» كالوزيرين زياد بارود وشربل نحاس، اللذين فشلا في تحقيق مشروعيهما. وفي ظل واقع كهذا، يسقط البعض ضحية إغراء «راديكالي» يبحث في ثورة مستحيلة عن حل لهذه المعضلة، متحوّلين إلى طليعة لجماهير غير موجودة.

بهذا المعنى، تبدو السياسة عصيّة على المسألة الإجتماعية التي لا تتطور إلا في لحظات انكفاء الهم السياسي المباشر، لتعود وتنقسم على نفسها في لحظة عودة السياسة وصراعاتها الطائفية. وتاريخ المجتمع المدني يشهد على ضعف بنيوي كهذا، على ما ظهر مع انقسام الحركة المدنية التي قامت بعد الحرب الأهلية لدى احتدام الصراع السياسي أواخر التسعينات، أو تجربة اليسار اللبناني قبلذاك حيث انتهى الى الحروب الطائفية.

وقدر كهذا يطاول أيضاً الجيل الجديد، كما ظهر مع جماعة «إسقاط النظام الطائفي»، حيث لم تستطع هذه الحركة كسر الاحتدام السياسي حتى في صفوف من يريد إلغاء الطائفية. هكذا بات العمل المطلبي يدور في حلقة مفرغة، حيث أصبحت جميع محاولات الإصلاح تصطدم بدولةٍ العبورُ إليها مستحيل، إمّا لصمودها وقمعها أي تغيير أو لانهيارها تحت ثقل الخلافات الطائفية. فهو، إذاً، عبور إلى لا شيء، عبورٌ لا تقوم له قائمة إلا في لحظة اختفاء المعبور إليه.

وقد يكون تحدي تسييس العمل المطلبي في الرد على تلك المعضلة، من خلال ابتكار خطاب قد يجيب عن هذين الإحتمالين، أي مزج «الصراع الطبقي» بـ «الحياد»، وهو جمع بين تراثين تميّزا بتناقضهما التاريخي. وهو تسييس يحاول المزج بين النقد والدفاع عن شروط وجود النقد. غير أنّ هذا الدخول إلى لبنان «الحياد» من باب صراعه الطبقي يبدو اليوم أيضاً مستحيلاً، في لحظة تنهار فيها الحدود والكيانات، وتظهر الدولة غير قادرة على ضبط أي شيء غير تشكيل نقابة للعمال الأجانب. في ظل معادلة كهذه، هل أصبح ضرورياً التفكير في إصلاح لا يعيّن الدولة بوصفها هدفه الأوّل ومحاوره الوحيد وإطاره العام؟ أو على الأقل، إصلاح يعترف بأنّ من هم بحاجة إلى الدولة، باتوا يعيشون في عالم ولى، عالم الدول-الأمم.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى