الدين والسياسة في سوريا
وضاح خنفر
يتخوف كثير من السياسيين والإعلاميين من المستقبل الذي قد تواجهه الأقليات الدينية في سوريا ما بعد الثورة، وكثيرا ما يأتي هذا التخوف في سياق تبرير التردد الأمريكي والدولي في تسليح الجيش السوري الحر، تردد منح النظام السوري نافذة للإقدام على ارتكاب مجازر بشعه بحق المدنيين على مرأى من العالم ومسمع.
التخوف على مستقبل الأقليات لا سيما الطائفة العلوية مبالغ فيه، ولا يسنده دليل من تاريخ سوريا الحديث ولا من النسق العام لأحداث الثورة السورية التي اندلعت قبل قرابة عام.
ليس لدينا إحصاءات دقيقة حول توزيع الأقليات الدينية في سوريا، إلا أن النسب المتداولة تعطي المسلمين السنة ٧٩ بالمئة من مجموع السكان البالغ عددهم……، بينما يشكل العلويون ٩ بالمئة ومثلهم المسيحيون، وتتوزع النسبة الباقية على طوائف أخرى كالدروز و……
ولأن التاريخ في الشرق الأوسط شديد الحضور في فهم الواقع وفي استقراء المستقبل ، فإن الأنساق التاريخية لا تعطينا أية مؤشرات قوية بأننا على وشك مواجهة موجة تطهير ديني، ففكرة النقاء الديني أو التطهير العرقي غريبة على تاريخ المنطقة، فسورا ومثلها العراق ولبنان وغيرها من دول المنطقة تحتتضن موزاييكا ثقافيا ودينيا يعتبر الأكثر تنوعا في العالم، تعايشت فيه الأديان السماوية الكبرى مع بعضها البعض ومع أقليات دينية فرعية انقرضت من العالم إلا في المنطقة.
ولم تشهد سوريا الحديثة صراعا على أسس دينية، بل كان التوتر عادة نتيجة توظيف سياسي، وجد في الشحن الطائفي وسيلة للتسلط والهيمنة، فكان التوتر بين السنة والعلويين في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي نتيجة صدامات دامية شنها نظام الأسد الأب ضد جماعة الإخوان المسلمين مما أسفر عن مذابح بشعة في مدينة حماة السنية التي سويت كثير من أحيائها بالأرض ، هذه الصدامات لا يمكن أن تحتمل جريرتها الطائفة العلوية باعتبارها مجموعة دينية، بل يتحمل وزرها النظام البعثي الذي حكم سوريا خلال ٤١ سنة الماضية وحرص خلالها على تكريس البعد الطائفي بشكل منهجي ومنظم لأغراضه هو، فأقصى من قيادة الجيش والأجهزة الأمنية معظم الضباط السنة كما أقصى غيرهم من الأقليات الدينية الأخرى، واعتمد على شريحة من العلويين اعتمادا شبه كامل في احكام القبضة العسكرية والأمنية على البلاد.
الاحتجاجات الشعبية المستمرة حاليا انطلقت ضد نظام بشار الأسد من حيث أنه نظام متسلط وفاسد، ولم تتخذ في انطلاقتها ولا عبر مسارها منحى طائفيا، بل كان من روادها الأوائل علويون ومسيحيون ودروز بالإضافة إلى السنة، كما أن الشارع السوري الذي قدم صورة مبهرة للشجاعة، قدم صورة مبهرة أخرى في الوعي، فالشعار الأكثر ترددا في الثورة السورية كان على الدوام (الشعب السوري واحد) في مواجهة الدعاية الرسمية التي حرصت على إثارة مخاوف الأقليات.
هذا لا يعني أن الشحن الذي تبناه النظام لم يرفع وتيرة الاستقطاب الطائفي، فكثير ممن دمرت منازلهم وعذب أبناؤهم بوحشية غير مسبوقة، أو ذبح أقاربهم أمام أعينهم على أيدي قوات النظام وما يعرف بالشبيحة، وهي مجموعات موالية للنظام وأكثرهم علوييون، كثير من هؤلاء لن ينسوا أو يغفروا بسهولة ما عانوه من ويلات، وقد وقعت بالفعل حوادث انتقام طائفي، غير أن المطمئن هنا أن قادة الثورة ووجهاء الطوائف الدينية وعلماء الدين اعتبروها أحداثا معزولة لا تمثل التوجه الحقيقي للشارع السوري بأطيافه المختلفة، وهذه نقطة مهمة، ففي غياب شرعية الدولة يلعب علماء الدين السنة ووجهاء ومثقفوا الطائفة العلوية دور المرجعية الأهم في العلاقة بين المجموعتين، وأشير هنا إلى بيانيين هامين صدرا في شهر فبراير الماضي بينما كانت مدينة حمص تتعرض لقصف الجيش النظامي السوري، البيان الأول أصدره خمسة من كبار علماء السنة في دمشق، وهم الأكثر احتراما والأوسع نفوذا في أوساط السنة بسوريا، واللافت في البيان أنه دعى فيما دعى إلى الحذر من الوقوع في فخ الفتنة الطائفية، رافضا بشدة تحميل الطائفة العلوية جرائم النظام، أما البيان الثاني فقد أصدره وجهاء ومثقفوا الطائفة العلوية في مدينة حمص وريف الساحل، تبرأو فيه من جرائم النظام ونأوا بأنفسهم عما يقوم به، ودعوا هم أيضا إلى تعزيز الوحدة الوطنية، هذه البيانات والمواقف تشكل هي الأخرى نسقا مستمرا منذ بداية الثورة السورية، وتمثل ضمانة مهمة مستقبلا ضد أحداث الانتقام والتطهير الديني.
وفي تطور مهم، أعلن يوم الثلاثاء الماضي عن تشكيل أول سرية علوية في الجيش السوري الحر، وقد أطلق المنشقون على أنفسهم اسم سرية ” الطائفة العلوية الأحرار”، ودعت السرية في بيانها الضباط والجنود من أبناء الطائفة العلوية للانضمام الى الثورة السورية، وهو الانشقاق الأول من نوعه في صفوف العسكريين الذين ينحدرون من الطائفة العلوية.
المشكلة الأهم التي تواجه الثورة السورية ليست نابعة من طبيعة الثورة السورية ولا من مآلاتها المستقبلية، بل من تردد المجتمع الدولي لا سيما بعد المواقف التي تبنتها كل من روسيا والصين، وما تبعها من شعور اقليمي ودولي بالعجز عن وقف المذابح التي يتعرض لها المدنيون، أما الثورة السورية فمدعوة إلى الاستمرار على ذات النهج الحكيم : الإصرار على الوحدة الوطنية، والتمسك بالقيم الكبرى الجامعة لأبناء سوريا: تأسيس دولة الديمقراطية العادلة، عندها سيأخذ المجرم عقوبته بحكم القانون، بعيدا عن شريعة الغاب وظلمات الانتقام.
واشنطن بوست