“الرجعية”: مفهوم حيوي خارج الخدمة/ وسام سعادة
في السنوات الماضية استرجع العرب في «حمأة ربيعهم» عدداً لا يستهان به من شعارات وطقوس ومؤثّرات الثورات الماضية، المتواترة بدورها عن الثورات المدرجة بشكل أو بآخر على لائحة «التراث العالمي للثورات الحديثة».
جاء الاسترجاع ممتزجاً بـ»الليبرالية السائبة» حيناً، وبـ»الشعبوية الابتهالية» حيناً آخر، أو بكلتيهما في معظم الأحيان. فـ»الشعب يريد» كثّفت بشكل أو بآخر هذا التلفيق الشعبوي – الليبرالي الذي لم يلبث أن تشظّى، بين من يتمثّله على أنّ «الشعب يريد أن لا يكون هو مصدر التشريع» (الأطروحة الإسلامويّة)، وبين «الشعب يريد أن تتجسّد ارادته في منقذ عسكريّ له شعبية» (الأطروحة العسكرية، السيسيّة)، وبين «الشعب يريد أن يبكي الربيع» (أطروحة المتشائمين الليبراليين بعد انقلاب تفاؤليتهم المغالية إلى نقيضها)، أو «أن يبعث الربيع» (أطروحة الليبراليين الذين استأنفوا تفاؤليتهم المفرطة في أعقاب الانتخابات التونسية الأخيرة).
تحت ظلال «الشعب يريد» سيقت أشياء كثيرة. وحده مفهوم «الرجعية» ظلّ غائباً عن السمع الربيعي الاسترجاعي، أو هو وضع خارج الخدمة.
سيقال ان التنديد بالاستبداد والطغيان، وبـ»النظام القديم» وفلوله، طغى على التنديد بالرجعية. سيقال ان التنديد بالفاشية والظلامية والعسكريتارية أيضاً طغى.
سيقال أن الأنظمة العربية «الجمهورية التقدمية» استهلكت التنديد بالرجعية بشكل نضبت الحاجة لاستخدام المفهوم. وهذا صحيح إلى حد كبير. لكن الأنظمة لم تبخل أبداً في تبنيها لمفهوم «الثورة» ورفعته إلى مرتبة قدسية، وسترت انعدام شرعيتها الدستورية بنشدان «الشرعية الثورية».
النظام السوري مثلاً، هو نظام جريدة «الثورة» و»اتحاد شبيبة الثورة». النظام المصري ما فتئ يعرّف نفسه كـ»نظام ثورة 23 يوليو» وحين ينفك قليلاً عنها يهرع إلى ثورة «1919». ليس هناك في الدنيا أكثر من استخدام ملفوظ الثورة قدر معمّر القذافي، ولا يتخلّف عنه علي عبد الله صالح كثيراً. ومع ذلك، كان مفهوم «الثورة» هو الأكثر شعبية في «ثورات الربيع العربي»، حتى أن وصفها بـ»الانتفاضات» عدّ تصغيراً لشأنها لا يليق برفعتها التاريخية!
لم تمنع كثرة استخدام الأنظمة الجمهورية التقدمية العربية لمفهوم الثورة «أهالي الربيع» من التسمّي بالثورة والشرعية الثورية. لماذا لم يحصل شيء شبيه مع مفهوم «الرجعية» اذاً؟ لماذا يبدو اعادة استخدام المصطلح، واعادة تشغيل هذا المفهوم، «رجعية» الآن، أي من مخلّفات مرحلة منقضية، ترجع اما إلى أيام جمال عبد الناصر في حرب اليمن، واما إلى أيام حافظ الأسد في حربه على الاخوان المسلمين؟!
في الثورات الفرنسية والروسية والصينية، كانت الإحالة إلى محاربة «الرجعية» بارزة وبمضامين مختلفة. «الثورة القومية» الألمانية كذلك الأمر، أي الوقائع المؤسسية والميدانية المؤدية إلى استيلاء النازيين على المانيا عام 1933، كان لها هي الأخرى خطابية هجائية معادية لـ»الرجعية»، بالاتساق مع خطابية هجائية معادية لـ»التقدّمية». الأمر نفسه بالنسبة إلى «الثورة الإسلامية» في ايران، فقد تماشى الانتصار السريع للطروح الخمينية فيها، مع خطابية هجائية مزدوجة للرجعيتين: الشاهنشاهية «المقبورة»، والملكية العربية المستمرّة في الجزيرة العربية.
وكانت المفارقة في هذا المجال، أنّ «التقدمية العربية» ممثلة بنظام البعث العفلقي في العراق، لكن مدعومة من «الرجعية العربية»، هي التي دخلت في مواجهة دموية شاملة مع ايران الخمينية، وصولاً إلى الحاق الهزيمة بالأخيرة.
في مكان ما، يمكن أن تفسّر قلّة استخدام مفهوم «الرجعية» بأنّ الثورات الربيعية قامت في الأ اس ضدّ أنظمة استبدادية، وراثية أو عائلية المنحى، لكنها أنظمة تعرّف نفسها كجمهوريّة وتقدّمية. وأضيفت إلى ذلك نوستالجيا للملكيات «الدستورية إلى حد ما»، المطاح بها في مصر والعراق، بل حتى في ليبيا، ووعود بالقابلية للدستورية لبعض الملكيات العربية دون سواها. بهذا المعنى، جرى تعطيل الدافع الجمهوريّ لاستخدام مصطلح «الرجعية». ومن خلال هذا التعطيل، أعفى الناس أنفسهم من لوازم التحريض على «الرجعية الاجتماعية» ممثلة بشرائح اجتماعية بعينها، في وقت استبقي فيه إلى حد ما التنديد بـ»الأفكار الرجعية» كما لو كانت منفصلة عن الهرميات الاجتماعية.
وبما أنّ «الظلامية» أو ما يعادلها استأثرت بصنف النعوت التي توجّه للإسلاميين من طرف أخصامهم، فقد تعطّل دافع آخر لاستخدام مصطلح «الرجعية»، محرّراً أخصام الإسلاميين من ضرورة أن يكونوا تقدميين حصراً، ومن التناقض مع الحملة السعودية والخليجية على الإخوان المسلمين. بدورهم، قلّما استخدم الإخوان المسلمون مصطلح «الرجعية» للتنديد بالحملة عليهم من طرف المؤسسة الوهابية الرسمية في السعودية، أو المؤسسة الأزهرية الرسمية في مصر. وهذا اختلاف بيّن مع الإسلام السياسي الشيعيّ. فالخمينيّ والخأمنئي يندّدان بـ»الرجعية» في مواضع كثيرة من كتاباتهما وخطبهما. والسيد حسن نصر الله يندّد أكثر من مرّة بالجهاديين في المقلب السني، مستخدماً مصطلح «القرون الوسطى»، في انزلاق «اورو – مركزي» من ناحية، (فالقرون الوسطى بهذا الشكل مصطلح اوروبي يتصل بتاريخ اوروبا وليس العالم ككل)، وفي ورطة منهجية من ناحية أخرى (فهل يعرّف نفسه كتقدميّ؟ هل يستند إلى عصر التنوير؟). الإسلام السياسي السني التركي قادر هو أيضاً على التنديد بالرجعية، رغم النوستالجيا العثمانية العامرة، لأنه يطرح نفسه كوريث للاصلاحية العثمانية (وليس كفرع من فروع الاخوان المسلمين في خطأ «صحفجي» عربي شائع). أما الإسلام السياسي السنّي العربي، الذي تخوض ضدّه «الرجعية العربية» معركة شاملة، فهو عاجز منهجياً عن اعادة تشغيل المفهوم. ففي آخر المطاف، هو ينظر إلى نفسه «كرجعي أيضاً» وليس كـ»محافظ فقط».
نحن منظومة شاملة من تعطيل الحاجة إلى مفهوم «الرجعية». لليبراليّ والعسكريتاري والاخواني وظائف مختلفة في هذه المنظومة. تجريد الحرية السياسية عن الحرية الاجتماعية يلعب دوراً حيوياً هنا. فالرجعيون في خطاب الثورات الكبرى هم أناس معرّفون، موقعهم رجعي في الاقتصاد والسياسة والثقافة في وقت واحد. هذا في حين يميل المتواتر خطابياً بعد اربع سنوات من الربيع العربي على تعطيل الحاجة إلى تحديد من هو رجعي في الاقتصاد والسياسة والثقافة في وقت واحد، لصالح التجزئة: فـ»الطفيلية» من حصة المندّد به اقتصادياً، و»الاستبدادية» أو «التسلّطية» من حصة المندّد به سياسياً، و»الظلامية» من حصّة المندّد به ثقافياً. هذه التجزئة تؤمن الأرضية المنهجية لتعطيل الحاجة إلى مفهوم الرجعية، بالشكلين اللذين ندّد بهما في المرحلة الناصرية مثلاً (أي «الرجعية الاجتماعية» الداخلية، و»الرجعية العربية» الخارجية). لكن تعطيل المفهوم لا يعني تعطّل الرجعية نفسها، بل غزوها المبكر والسريع للربيع العربي نفسه.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي