صفحات الرأي

نحتفي بابن رشد أم بهزيمة العقلانية؟/ موسى برهومة

 

 

أن يحتفي محرّكُ البحث العالمي «غوغل» بمرور 888 عاماً على ميلاد ابن رشد بأن يضع لوحة له وهو يقرأ كتاباً وخلفها تمثال له، فلذلك أبعاد رمزية كثيفة الدلالة، فضلاً عن كون المُحتفى به يمثل محطة بارزة في الثقافة العربية الإسلامية جعلت منه قنطرة بين الشرق الآفل والغرب المتوثب.

ومما يثيره الاحتفاء بابن رشد أنه يعد علامة فارقة في الفلسفة العربية الإسلامية التي انحازت إلى العقل، وغلّبته على النقل، على ما في هذه الغلبة من انحياز لنواميس المنطق الذي نهل ابن رشد أصوله من رائده أرسطو الذي غُرم ابن رشد به غراماً جعله لا يُقبِل، وحسب على شرح كتبه شرحاً أعاد إنتاجها من جديد وفق رؤية رشدية ناقدة ومتفحصة، بل إنه رأى أن الإنسانية، عبر تاريخها الطويل، بلغت في شخص أرسطو درجة عالية يستحيل أن يسطو عليها أحد، أو يبلغ سموقَها شخص.

ولم يتورع ابن رشد، من شدة افتتانه بأرسطو، عن أن ينظر إليه بوصفه الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل. بل إن أرسطو تمثّلَ في روح ابن رشد باعتباره فيلسوفاً إلهياً، وبالتالي فـ «ليس في أقاويل أرسطو شيء يحتاج إلى تتميم»!

وقد أسلمَ هذا الرأي ابنَ رشد إلى انتقادات دعاة السلف والنظر النقلي الحْرفي الذين ما انفكوا يكيلون له التهم بسبب تغليبه العقل على ما سواه، فهو كان يعتقد بأنه إن تعارض العقل مع النقل في حكم شرعي وجب تغليب العقل، لأن النظر البرهاني لا يؤدي، على القطع، الى مخالفة ما ورد به الشرع، «فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له».

وإن كان مثل هذا الرأي قد ورد على لسان مناوئي ابن رشد كالغزالي وابن تيمية، إلا أن ما يميز الانحياز الرشدي إلى العقل وأحكامه أصالة الاعتقاد بقدرة العقل على إدراك كُنْه الوجود، وتدعيم المنظومة الإيمانية وتعزيز النص القرآني بفهم تأويلي أساسه النظر البرهاني الذي أساسه الفلسفة. لذا يقرر ابن رشد بصريح العبارة أن «الشريعة توجب التلفسف» وأن الحكمة والشريعة، أو الفلسفة والدين لا تعارض بينهما، فهما «أختان رضعتا لباناً واحداً».

ويمكن أن نصف مشروع ابن رشد بأنه كان ثورياً بامتياز، فقد قام على هدم ما كان أسّس له الغزالي الذي انحاز إلى سلطة المنادين بالنقل والتفسير الحرفي للقرآن من «أهل السنة والجماعة»، و «السلف الصالح»، أو ما يمكن وسمهم بـ «المحافظين»، وشن هجوماً قاسياً على ابن سينا والفارابي، إذ رأى قبل «تهافت الفلاسفة» وتحديداً في كتابه «مقاصد الفلاسفة»، أن الأخيرين «على كثرة أصنافهم، يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد».

وكان على ابن رشد أن يعيد إلى الفلسفة اعتبارها، وأن يمنع «حجة الإسلام» من الغلوّ في تمزيق الروح العقلانية في التراث العربي الإسلامي. واختار ابن رشد عرض الأسس النظرية لهذه المواجهة في كتابه «فصل المقال» ليتبعه بجهد تطبيقي فذ في كتابيه الأساسيين «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، و «تهافت التهافت».

لكنّ العاصفة في ذلك الزمن كانت أشد عناداً من مقاومة شراع العقلانية، فانتصرت النظرة الأحادية المطلقة للدين والسياسة والمجتمع، وحوصرت التعددية، وقُمع الاختلاف، وتقهقهر فكر ابن رشد، وكان المتضررَ الأكبر في هذا الصراع الطويل والمرير الشريعةُ ذاتُها، لأن النظر إلى خطاباتها ظل قاصراً عن تمثّل المعاني المجازية الكثيفة الرمزية، والتي لا يمكن فهمها وتدبّرها إلا بالنظر العقلي والاستبطان التأويلي الذي يجعل الخطاب القرآني مفتوحاً أمام القراءات المتعددة التي تحافظ على الحيوية الإيمانية، وتقرّب المعاني القرآنية من مدارك البشر على اختلاف الأزمنة وتلاحُق العصور.

نتذكر ابن رشد، بل يتذكر، العالم، إن شئنا الدقة، هذا الفيلسوف الذي أحرقت كتبه، وخاض محنة التكفير، مدشّناً، بعد تلك المحطة اليائسة، عصر العتمة الروحية والتأتأة العقلية والعُته الوجداني الذي نخوّض في مستنقعاته الآسنة منذ أكثر من ثمانية قرون.

ابن رشد لم ينكر وجود الله، بل أراد أن يمكّن الناس من معرفة الله بعقولهم، ومن دون وصاية من أحد أو سلطة، لأن النظر العقلي البرهاني، في نظر فيلسوف قرطبة، يمثّل الكمال المطلق!

* كاتب وأكاديمي أردني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى