الريف السوري ومعارضة النظام/ سمير سعيفان
واجه نظام البعث السوري، منذ تسنمه السلطة في مارس/آذار 1963، معارضة قوية، فتجريد النخب الحاكمة من سلطتها السياسية وسلطتها الاقتصادية لا يمر بسهولة، إذ لم يُزل انقلاب 8 آذار النخبة السياسية من قمة هرم السلطة فقط؛ كما فعلت انقلابات عسكرية سابقة بين 1949 و1954؛ بل أزال النخبة الاقتصادية المالكة الأرض والمال والأعمال، وجرّدها من قوتها الاقتصادية، عبر إجراءات مصادرة ملكيات الأرض الكبيرة، وتوزيع جزء منها على الفلاحين، وتأميم الشركات الصناعية والتجارية والخدمية، والسيطرة شبه الكاملة على قطاعات اقتصادية، مثل الصناعتين، الكبيرة والاستخراجية والتجارة الخارجية وقطاع المال والتجارة الداخلية لسلع رئيسة.
بعد تصفياتٍ مبكرة بين أقطاب انقلاب آذار 1963 خلال شهور قليلة، واستفراد البعثيين بالسلطة بعد طرد شركائهم من ناصريين وقوميين عرب ومستقلين، بدأت مرحلة صراعٍ وتصفياتٍ بين أقطاب “البعث” أنفسهم انتهت بسيطرة ضباط صغار من أصولٍ ريفية على السلطة، بتوجههم الاشتراكي الراديكالي، وطرد القيادات التاريخية المدينية لحزب البعث في انقلاب 23 فبراير/شباط 1966.
ولأن النخب السياسية والاقتصادية المزاحة عن السلطة كانت مدينية، فقد كانت المدينة حاضنة معارضة النظام في الستينيات وحتى الثمانينيات، وقد جرت إضراباتٌ واحتجاجاتٌ في دمشق وحماه وحمص وحلب، وكانت أحداث حماه في إبريل/نيسان 1964 أول صدامٍ مسلح مبكر بين النظام الجديد ومعارضته، وقد اختط النظام مذاك نهجًا عنيفًا في مواجهة أي معارضةٍ أو احتجاج.
تحولت النخب المدينية التي تم تجريدها من سلطتها السياسية والاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية، والتي كانت تعادي الإسلام السياسي، إلى دعمه في مواجهة السلطة الراديكالية الجديدة. وأصبح أبناء هذه الفئات الوسطى، من أطباء ومهندسين ومحامين وجامعيين، ينتمون إلى جماعة
“انطلقت الانتفاضة من درعا التي عانت، كغيرها، من سياسات النظام وبيروقراطيته والفساد الواسع” الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي الأصغر، بينما كانوا من قبل ينتمون إلى الأحزاب التقليدية، مثل الشعب والكتلة الوطنية، بل وحتى الحزبين، الاشتراكي العربي والبعث العربي وغيرهما. ومذاك أصبح الإخوان المسلمون القوة الرئيسة المعارضة للنظام، وكسبوا تعاطفًا واسعاً في الأوساط المدينية، وجنّدوا في صفوفهم أعدادًا متزايدةً من المنتسبين والمتعاطفين، وشكّلوا مجموعاتٍ مسلحةٍ قامت بأعمال تخريبية واغتيالات منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، وتصاعد الصراع حتى أحداث حماه الشهيرة في فبراير/شباط 1982، حيث قُتل عدة آلاف من المدنيين تقدر بين 5 و10 آلاف مدني، إضافة إلى نحو ألف عسكري حكومي، إذ لم يصدر أي تقرير من السلطة السورية عن تلك الأحداث حتى اليوم.
في المقابل، عزّزت إجراءات نظام البعث وسياساته الجديدة وقوف فئاتٍ شعبيةٍ إلى جانبه، سواء فئات سياسية (تعاطف قواعد أحزاب ذات توجه اشتراكي، أيدت إجراءات النظام، على الرغم من خلافات القيادات) أو فئات ريفية واسعة، بعد توزيع الأرض على أعداد كبيرة من الفلاحين الذين عانوا من استغلال كبار المالكين واضطهادهم، واستغلال المدينة، وأيضًا وبنسبة أقل، فئات مدينية فقيرة. كما عزّزت سياسات السلطة البعثية الجديدة تأييد الريف لها، بتقديم القروض والبذار للفلاحين وشراء منتجاتهم، ما حرّرهم من سيطرة تجار المدينة، كما اكتسبت النخب الحاكمة الجديدة تعاطفًا وتأييدًا ريفيًا، بسبب سياساتها في توسيع التعليم وخدمات الصحة وإيصال الكهرباء وشبكة الطرق إلى أعماق الريف. كما تعزّزت الإجراءات الاقتصادية والخدمية التي استهدفت الريف بإجراءات سياسية، إذ جاءت قيادات حزب البعث واتحاد الفلاحين في المحافظات والمناطق والنواحي من طبقات فقيرة ومتوسطة في معظمها، وأصبحت هي صاحبة الكلمة في منطقتها، بدلاً من النخب السابقة من مالكي أرض ووجهاء وشيوخ عشائر. وكان الطابع الفلاحي الريفي للسلطة البعثية واضحًا آنذاك.
دفع هذا كله جماهير الريف، وإلى حد ما جماهير المدن الفقيرة، إلى أن تقف إلى جانب النظام الجديد في مواجهة معارضته التي اتخذت طابعًا إسلاميًا، أو على الأقل لم تؤيد ذاك الإسلام السياسي، ولم تقف إلى جانبه في صراعه الذي أشهره ضد سلطة “البعث”.
بعد 1970 واستفراد حافظ الأسد بالسلطة، بعد تغلبه على منافسه صلاح جديد، وقد حاز على تأييدٍ علنيٍ من قطاع الأعمال والفئات التقليدية، وتأييدٍ مضمر من قوى الإسلام السياسي، وفق قاعدة أنه “أهون الشرّين”، بدأ طابع السلطة البعثية بالتبدّل تدريجيا، وتراجع طابعها الإيديولوجي اليساري، وبدأت بالانفتاح أكثر على فئات المجتمع السوري التقليدية في المدن، وعلى الأوساط الدينية والعشائرية. وفتح الأسد الباب مواربةً أمام القطاع الخاص، والذي كان، في معظمه، مدينياً حتى تاريخه. ثم بدأت سياسات النظام تتحول تدريجيًا باتجاه إعادة بناء رأسمالية سورية جديدة، ويمتلك المسؤولون وأبناؤهم حصة الأسد فيها، وبدأ الطابع الاجتماعي للنخب الحاكمة بالتبدّل تدريجيًا، وأخذت تنخرط في المدينة وأعمالها وحياتها بقوة أكبر كل عام. وبالتالي، بدأت سياسات النظام الزراعية والريفية والاجتماعية بالتآكل تدريجيًا. وتم إهمال الريف، فتراجعت الزراعة وزاد فقر الريف، خصوصا مع نمو السكان، بينما بقيت مساحات الأرض محدودةً وطرق الإنتاج تقليدية، وانعكس هذا هجرةً من الريف إلى المدينة، أو هجرة للعمل في دول الخليج، أو هجرة إلى أوروبا وأميركا. وقد تحولت السلطة التي كانت ريفية إلى سلطةٍ مدينية مندمجة، لقد خان أبناء الريف أصولهم الطبقية، وانتموا إلى الطبقة الجديدة الريعية، وحلوا محل الرأسمالية التي جاؤوا تحت شعار القضاء عليها.
أنتجت سياسات الانفتاح وتقليص شبكة الضمان الاجتماعي، وخصوصا بعد سنة 2005، من دون تعويض هذه الفئات عما خسرته جرّاء تلك السياسات، زيادة في معدلات البطالة ومعدلات الفقر والفقر المدقع، إضافة إلى تدهور خدمات التعليم والصحة والمياه النظيفة وغيرها. فقد تراجعت قدرة النظام على تمويل شبكة الضمان الاجتماعي، بسبب القدرة الإنتاجية المحدودة لاقتصادٍ يدار بكفاءة بيروقراطية ضعيفة، وتقديم الولاء على حساب الكفاءة، وتفشّي الفساد، وتزايد طابعه الريعي على حساب الإنتاجي، وتحميله أحمالًا كبيرة (جيش وأمن متضخم لحماية النظام، وجهاز حكومي بيروقراطي متضخم، ومنظمات حزبية وجماهيرية غير منتجة، تتغذّى من الخزينة العامة لكسب الولاء)، بينما تراجع إنتاج النفط من جهة، وتوقفت قدرة النظام على بيع سياسة في مقابل حصوله على دعم مالي خليجي، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، ثم بعد عدوان إسرائيل على لبنان 2006. كل هذا أضعف قدرات النظام أكثر على المضي في سياساته الاجتماعية السابقة.
اجتمعت قدرة النظام الاقتصادية المتراجعة مع سياسته الجديدة المحابية للرأسمالية، وإهماله
“انعكست تحولات الريف السوري في موقفه تجاه النظام في مشاركته الواسعة في الانتفاضة التي انطلقت في 2011، خصوصا بعد أن أصبح الريف مسرحها الرئيس” للريف، خصوصا للريف الشرقي والشمالي في سورية، وأرياف حلب والرقة ودير الزور والحسكة وغيرها، ما أنتج تحولاً في مواقف الريف من النظام، من الموقف الداعم في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته في مواجهته مع قوى الإسلام السياسي المدعومة عربيًا وخارجيًا آنذاك، إلى موقفٍ معادٍ له فيما بعد. وقد أجّجت مجموعة من العوامل الداخلية وسياسات النظام الخارجية، الموقف المعادي للنظام، مثلاً وقوف النظام إلى جانب نظام إيران الإسلامي منذ 1979 ضد العراق الذي يحكمه الحزب نفسه، صبّ الزيت على نار المواقف المذهبية في سورية، وأجج عداء فئاتٍ واسعة ضده.
انعكست تحولات الريف السوري في موقفه تجاه النظام في مشاركته الواسعة في الانتفاضة التي انطلقت في 2011، خصوصا بعد أن أصبح الريف مسرحها الرئيس، بعد القمع الذي واجهته تظاهرات المدن. وعلى الرغم من نقمة المدن المضمرة على النظام، ولكنها وقفت معه في النهاية، فانطلقت الانتفاضة من درعا التي عانت، كغيرها، من سياسات النظام وبيروقراطيته والفساد الواسع، ودعمتها مناطق ريفية واسعة، وحتى أحياء الأطراف المدينية الفقيرة المهمشة التي وقفت إلى جانب المعارضة هي أحياء يعود سكانها إلى الريف في معظمهم، أو هي فئات مدينية فقيرة تدهورت أحوالها في العقود الأخيرة، بينما وقفت أحياء الفئات الوسطى والغنية في المدينة مع النظام. لذلك، كانت سيطرة المعارضة على مدن سورية تتم عبر هجوم فصائل المعارضة المسلحة من الريف على المدينة، كما جرى في حلب وإدلب والرقة. وفي شهر يونيو/حزيران 2011، قال لي أحد رجال أعمال دمشق جوابًا على سؤالي حول ما يجري في سورية “هذه انتفاضة ريفٍ ضد سلطةٍ ريفية، يعني ريف ببعضو، فنحن شو دخلنا”.
موقف الريف من النظام وتأييده في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، ثم معارضته التدريجية إلى حد مشاركته الواسعة في انتفاضة سلمية ضده ما لبثت أن تحولت إلى مسلحةٍ بسبب القمع، إنما يعكس المسار الطبقي للسلطة، من سلطةٍ بطابع فلاحي، مثلت سيطرة الريف على المدينة، وعكست مصالح الفئات الفقيرة، إلى سلطةٍ انخرطت في حياة المدينة ومصالحها، واهتمت بدخول نادي رجال الأعمال، فالمال أساس كل سلطة، لتحل محل النخب القديمة التي أزاحتها، وجلست على كرسيها في المدينة، فسورية تحكم من المدينة ومن دمشق بالذات، وليس من الريف البعيد.
العربي الجديد