السوريون، طعاماً للأسماك.. أيضاً/ مالك ونوس
لن تُختتم المأساة السورية أو تنتهي إلا إذا استوفت جميع فصول الفظاعات التي يعرفها أو يمكن أن يتعرف إليها ويختبرها البشر. فبعد أن جرَّب السوريون جميع صنوف القتل القادم إليهم عبر الرصاص والعبوات الناسفة والصواريخ والطيران، وحتى المبتدع منه عبر البراميل المتفجرة، خبروا الآن الموت غرقاً ليصبحوا طعاماً لأسماك البحر. فمنذ أن بدأ سِفْر اللجوء السوري إلى جهات الأرض الأربع، منذ عامين ونصف، هي عمر الموت الشامل في سورية، بدأ السوريون يجوبون بقاع الأرض بحثاً عن عيش آمن يقيهم الموت. وكان من قصص لجوئهم وهروبهم من الموت، هروبٌ إلى موتٍ آخر. هو ذلك هروب السوريين بقوارب صيد صغيرة إلى الشواطئ المقابلة، الآمنة، على الضفة الأخرى من المتوسط.
تطالعك بين الحين والآخر مختلف وسائل الإعلام بأخبار غرق مركب في البحر المتوسط أو في بحر إيجه يحمل مهاجرين سوريين وجهتهم الرئيسية إحدى البلدان الأوروبية التي يقصدونها للنجاة من الحرب، غير عابئين بالأخطار التي تتربص بهم وهم في البحر أو تنتظرهم لدى وصولهم. فهم لن يكونوا مختلفين عن أقرانهم المهاجرين من الدول الإفريقية أو دول المغرب العربي الذين درجوا على خوض البحر للهروب من الحروب والمذابح والتطهير العرقي أو من الفقر والمجاعات. وكما وقع أولئك المهاجرون طيلة عقودٍ ضحايا لمافيات المهاجرين العاملة بين شاطئ المغرب العربي ومصر والدول الأوربية سيقعون هم أيضاً. تلك المافيات التي تتاجر بالفقراء فتعدهم بتوفير وضع قانوني لهم، وخاصة في إيطاليا، ليعملوا في مجال الزراعة. لكنها تتركهم ليغيبوا في الحقول ويعملوا كالرقيق لأكثر من 14 ساعة في اليوم ولسنوات عديدة مقابل أجور بسيطة. ويعانون خلال عملهم من ظروف عيش سيئة، حيث يسكنون مخيمات أو أماكن تفتقر إلى أدنى شروط الإنسانية.
قد لا يعرف كثيرون حقيقة أن السوريين يدخلون إلى بلدان كقبرص واليونان كسائحين لمدة لا تتعدى الـ15 يوماً، ثم يختفون لأشهر في الوديان والحقول للعمل كعمال موسميين في جني الفواكه والخضار مقابل مبالغ تدفع عن عائلاتهم وأهلهم العوز. ويبقون متوارين عن الأنظار إلى أن يُكتشَف أمرهم فيُسجنون حتى يتم ترحيلهم ويوضعون على اللوائح السوداء لمنعهم من دخول البلاد مرة أخرى. وهي قصص قلما نسمعها أو نعرف بوجودها أو نهتم لأمر أصحابها رغم المرارة التي تصاحبها.
لكن الأمر اختلف هذه المرة، فالموت وليس الفقر، هو ما يدفعهم إلى تلك الهجرات. ويبقى وجه شبه واحد، هو أننا لا نسمع قصصهم إلا حين يصبحون ضحايا، وفي الوقت ذاته نجهل بداية تلك القصص أو مصيرهم لدى وصولهم إلى مقصدهم في البلدان الأوربية. وكل ما نتوصل إليه في بحثنا عن أخبارهم هو أن مأساةً كبيرةً بحجم المقامرة بالروح هي ما دفعهم لخوض المجهول. كما نكتشف أن أحداً لم يكلف نفسه عناء متابعة حالاتهم. فنوقن أنهم تُرِكوا هكذا لمصيرهم، أياً كان، ككل السوريين المنتشرين تحت القصف أو في مخيمات اللجوء في صحاري الأخوة أو العالقين في المطارات. ومن اللافت أيضاً إغفال الإعلام الرسمي السوري لحوادثهم، غير أن ذلك الإغفال يبدو منطقياً ونحن نعرف رغبة أصحابه بإفراغ البلاد من سكانها.
الذين روضوا مياه البحار عبر الزمن لتحملهم إلى أقاصيها والذين يُعتَقد أن أجدادهم الفينيقيين اكتشفوا قارة أميركا قبل كولومبوس بقرون. ولم تنقطع سفنهم عن بحرٍ أو محيطٍ أو ميناء، أصبحوا من الضعف والهوان أن شبر ماء يمكنه أن يخطف أرواحهم.
المدن