السوريون ليسوا شهداء/ روجيه عوطة
فوق الحُفر، التي يجثو داخلها المقتولون في مجزرة نظام البعث المستمرة سورياً، يقف خطاب اللاممانعة وجهاً لوجه مع خطاب الممانعة، محاولاً الرد على سردياته ومقولاته عنهم. وبعد التوطئة لسلسلة بعنوان “أن نثور بلا ثورة”، هنا الحلقة الأولى من السلسلة ذاتها عن الموت والقتلى في سوريا، ووصفهم اللاممانع بـ”الشهداء” و”الضحايا”.
دأب الأسديون، إذاً، على نفي وجود القتلى. وقبل ذلك، داوموا على إزالة المتظاهرين، كما أنهم واظبوا على تشويه صورة المنشقين عن جيشهم، وهذه الأفعال جميعها لا تنفصل عن استراتيجيات سلطاتهم، التي لم يحضر الناس، في ظلها، كأحياء، ولا كموتى، بل مجرد أجسام خاضعة، تسيِّرها، من مؤسسة اعتقالية إلى أخرى، قواعد وقوانين غليظة وقاسية. إلا أنه، في آذار 2011، خرج المحكومون على مسارات التدجين والتسجين تلك، وصنعوا طرقاتهم الخاصة. عبرها، تحدوا قمع النظام، سعياً إلى إسقاطه، متحولين من أجساد، لا هي حية، ولا ميتة، إلى أجساد قادرة على الحياة من خلال الموت الذي حطموا به الأبد. على إثر ذلك، تحرك النظام، كاشفاً عن جوهره، أي عن عنفه المفرط في القتل والإعتقال والتعذيب والتجويع، بغاية لجم الثائرين، وإبقائهم على أرضه، ماحياً إياهم بمقولة “المتآمرين”، أو “المغرر بهم”، أو “المخدرين”. بالتالي، حجب حضورهم في خطابه، لتسهيل التخلص منهم في الواقع، كأنهم غير موجودين قبل قتلهم وبعده. بالمحو هذا، تعاملت السلطات مع الخارجين على ضوابطها، الذين ما أن تحولوا إلى أجسام قادرة، حتى ضُربت حيواتهم الممكنة، وطُوّق موتهم الواقعي. فالنظام لا يكنّ العداء للحياة فحسب، بل للموت أيضاً. لأن الثاني، في سياقه الثوري، جزء من الأولى، أو لنقل أنه مستطاعها، الذي، باسترداده، وبالتعرف عليه، يهشم ناس الأبد، ويغادرونه.
لا يريد “البعث” أن يصير الناس أحياء، لذا يصدّ ميتاتهم، وهو، حين يقتلهم، يهدف إلى تأبيدهم في سجنٍ، لا زمن داخله ولا استحالة. هذا ما يفسر محاصرة الأمن البعثي للمدافن في المناطق، التي خرجت على سلطته، ومنع زوارها من الوصول إلى قبور القتلى. فمن جهة، يحتجز الموتى، كأنهم غير موجودين، ومن جهة أخرى، يعيق استمداد الممكن من واقع موتهم، أي يعرقل تحول اللقاء بهم، أو زيارتهم، إلى تظاهرة لإسقاطه. فمن المعلوم، أن احتجاجات يوم الجمعة، كانت تنتج جنازات يوم السبت، التي، سرعان ما تصير تظاهرات في حينها. فقد كان الناس يصنعون ممكنهم يوم السبت، أي التظاهر، على أساس غير المحتمل البارحة، أي الفقدان أو الغياب، كي “يعبروا غداً” إلى القدرة على احتماله، أي إلى الحياة.
تالياً، ليس الموت حادثاً، في هذا المطاف، يطرأ على السوريين، فيعيدهم إلى الأبد الذي يتمسكون بنظامه. بل إنه حدث ثوري، يتولون المسؤولية أمامه، يتدبرون غير محتمله، خالقين مُمكنهم من وفي الواقع الجديد، الذي أنتجه: من التظاهر إلى التشييع الذي يصير احتجاجاً، ومن الشارع إلى المقبرة التي تتحول إلى فضاء تغييري. وعليه، مَن هو الحيّ في سوريا؟ مَن هو الثوري؟ قد يصح القول أنه القادر على الموت، على تحمل المسؤولية أمامه، كحدث بمسارات جديدة، على سطوحها، يصنع إمكانات فراره من الأبد إلى واقع مغاير. فـ”الموت ليس سؤالاً الآن. الموت نافذة نفتحها على الأسئلة”، على قول سمر يزبك في أحد نصوصها. وبمعنى آخر، هو سياق عبور، لتكسير الأبد، وتحويله إلى ميتات، لا يقع الناس فيها، بل ينفصلون عنها، ليصيروا أحياء. فهم قد انشقوا عن الأبد بالموت، واجتمعوا في واقعه على افتراض مبارحته، تماماً مثلما فعل سكان “المشحم” في حيّ جوبر (غوطة دمشق)، محولين المدرسة المهجورة إلى نقطة طبية، لغسل جثث الموتى، وتكفينها، ثم نقلها إلى المدافن.
لقد فتح الناس “نوافذ” الموت في جدار الأبد، في حائط الإجابة الشمولية، ليطلوا على أمكنة بأوقات مختلفة، حيث تتألف أناواتهم الجديدة، وتدخل في علاقات متفرقة مع بعضها البعض، الغالب منها كان مكبوتاً، أو متجمداً في ظل “النظام”. واليوم، تتفلت، أو تُصنع، ليتعرف خائضوها على آخريهم. فثمة الكثير من الإستفهامات، التي يفتح الموت عليها، حول الإجتماع، والذات، والتفرد، والهوية إلخ.. والتي لا يمكن التجريب فيها سوى بالإستناد إلى الموت، ومن ثم الإنفصال عنه، وتخطي سكانه، أي تحويل القتلى… لكن، إلى ماذا؟
أبناء “الخالد”
بالإبتعاد عن أسئلة الموت في سوريا، والإقتراب من خطاب اللاممانعة، نقع على وصفين، غالباً ما يُنعت بهما القتلى، وغالباً ما يجري الإنحياز إلى واحد منهما دون الآخر، بحسب صلات الواصف الدينية، أو الدنيوية. الأول هو “الشهداء”، والثاني هو “الضحايا”. والوصفان، هنا، يتعاليان، كل في مساره، عن واقع الموت، ولحظاته، بحجج عدَة، بعضها يفرضها غير المحتمل في الحدث، وبعضها الآخر يجري إنزالها عليه. لكن، وفي كل الأحوال، يمنع ذلك تغيّر الناس إلى أحياء، أي يعيق انفصالهم عن الموت، بعدما انشقوا به عن الأبد.
فمن ناحية، وانطلاقاً من لغة ذائعة تنطوي على الايديولوجيا الدينية، وتشعباتها القومية والوطنية، يوصَف القتلى بـ”الشهداء”، ويُضاف إلى نعتهم نعوتاً أخرى من قبيل “أبطال” و”عرسان” و”نجوم”، أو تُضاف وعود مثل “على العهد دائماً”، و”على نهجكم”. ينعقد هذا الوصف التشميلي على غاية معلنة، وهي الرفع من قيمة القتلى، والتخفيف من الحزن على خسارتهم، وفي الوقت نفسه، إسكانه “فسيح جناته”، بعدما أظهروا شجاعتهم، “بذلوا حياتهم” و”ضحّوا من أجل الثورة”. يتضاعف هذا الوصف، حين يصدر عن لسان ديني خالص، كأن يقول صاحبه: “أريد الإستشهاد في سبيل الله” أو “الدخول إلى الجنة”. بالتالي، يصبح الهدف من هذا الفعل غير واقعي، أو غير موجود في الواقع على الأقل، أي الإنتقال إلى “السماء”، إلى الأرض المتعالية التي يسحب الوصف قتلى الأبد إليها، ليصبحوا “خالدين”. وهنا، نافل التذكير أن “الخلود” واحد من نعوت مؤسس نظام البراميل في سوريا، حافظ الأسد، الذي يُسبق إسمه بـ”القائد الخالد”.
إذاً، ثمة تماثل شديد بين “الشهيد” والديكتاتور الأسد، مع فارق أن الأول ارتفع إلى أرض التعالي ودخل إليها من باب الموت، أما الثاني فوصل إليها من باب الدوام، علماً أن الموت في “الجنة” سرعان ما يتحول إلى “أبد”، أي أن الشهيد سرعان ما يصير ديكتاتوراً هناك، وعلى الأرض طبعاً. غير أن مطلقي وصف “الشهداء” يغضون النظر عن ضرورة انفصال المقتول عن القاتل، كي لا يستمر اغتياله من جهة، وكي لا يستحيل قاتلاً من جهة أخرى. هذا، ولا تتوقف المسألة عند حدود اللقاء الخرافي في مكان لا واقع له، بل إنها تتعدى ذلك إلى ضرب أحد محركات الحدث الثوري، أو أفعاله الأساسية، وهو “إسقاط النظام”، أي إسقاط المتعالي نفسه، وتحطيمه في الواقع. فماذا يعني وصف القتلى بـ”الشهداء” غير إعتقالهم في المتعالي من جديد، وبالتالي إعادتهم إلى “أرض” النظام، أو إلى سمائه تحديداً، التي يظهر فيها اليوم بطائراته المروحية والحربية؟
أن يوصف القتيل بـ”الشهيد”، فهذا يؤدي إلى عودة النظام من خلاله، إلى إعادة بناء المتعالي رغم السعي إلى إسقاطه، وإلى تكريس “قائده الخالد”، الذي يصادف، في نكتة سورية، إبنه باسل داخل الجحيم، فيُفاجأ “الفارس” بأبيه، ويقول له:”بعلمي إنت إلى الأبد”، فيرد عليه:”وبعلمي إنت شهيد”… لقد التقى “الخالد” بـ”الشهيد”، الأب بإبنه، فما على قتلى النظام أن يلتقوا بهما أيضاً، ما عليهم أن يصبحوا “أبناء” حافظ الأسد، حتى لو كان مثواهم الجنة!
.. وليسوا ضحايا
من ناحية أخرى، وبالتوازي مع وصف “الشهداء”، يحضر وصف “الضحايا”، الذي يعتمده أصحابه لنعت القتلى ويجدونه ملائماً أكثر، بالإستناد إلى مُطلق دنيوي-إنساني، بدلاً من المُطلق الديني-المقدس. فمن الممكن لهذا الوصف أن يتحمل التسييس، بحسب مستخدميه، على عكس الوصف الثاني، الذي يؤدي إلى عصبية ما قبل سياسة، إلى الإنتقام للقتلى، كما أنه يركز على مطالب الناس، فهم لم ينزلوا إلى الشارع طمعاً بالإستشهاد، بل من أجل حقوقهم، التي “ضحّوا” بحياتهم سعياً إلى “تحقيقها”. هؤلاء “دفعوا ثمن مواقفهم في سبيل حرية الشعب السوري وكرامته ونيل حقوقه”، على ما تقول إحدى العبارات الرائجة. وعليه، لهم “دين في أعناق السوريين” الأحياء، الذين بدورهم لن يفوا “الدَّين” سوى بتحقيق الناقص من واقعهم، أي تحقيق “الديموقراطية والعدالة والمساواة” إلخ.
مما لا شك فيه أن وصف “الضحايا” يختلف عن وصف “الشهداء”، أكان من جهة التقاطع الخطابي مع النظام، أو من جهة رفع القتلى إلى “سماء” نظامه. لكن ذلك، لا ينفي أنه، هو الآخر، يقع في فخ التعالي، الذي بدل أن يكون عمودياً، كما هي الحال بالنسبة للإستشهاد، يصبح أفقياً. بكلام آخر، بدل أن يصبح القتلى “نجوماً”، يصيرون “رموزاً”، وبدل عبارة “قُتلوا كي يدخلوا الجنة”، يُقال أنهم قتلوا كي “يبنوا الجنة على الأرض”. وذلك، ارتكازاً على مرجع غير ديني، صحيح، إلا أنه، في النهاية، يحضر خارج الواقع، أي نص “حقوق الإنسان”، الذي “زهقت أرواحهم” لتطبيق بنوده، لتحقيق أفكاره.
على هذا الأساس، يحل التجريد محلّ التعالي، وفي الحالتين، يُعزل الناس عن واقعهم الجديد، بالإضافة إلى أن مقولة “التضحية من أجلهم”، تذَنبهم، تُحزنهم، تعاقبهم على نقص، وتطالبهم بتسديد “دَين” القتلى، الذين تُختزل أوضاع وحالات موتهم المتعددة في فعل واحد: “فداء الثورة”. مع تحويل القتلى إلى “كائنات التضحية”، يصبحون أقوى من الباقين على قيد العيش، هؤلاء، يسيطر “الدَّين” على أعناقهم، فتتركز جهودهم في سداده، على “تحقيق مطالب” المضحين، أي تلك الحقوق المجردة، التي لا علاقة لها بالواقع وأحداثه. إلا أن الأحياء، أو بالأحرى المنفصلين عن الموت كي يصيروا أحياء، لا يقدرون على “الإيفاء بالدَّين” لأنه متخيّل، رغم رسوخه بتكرار الكلام عنه. فالسبيل الوحيد للشعور بأن تسديده قد حدث هو التضحية بأنفسهم أيضاً. في النتيجة، وصف “الضحايا” لا ينتج عند المنفصلين عن الموت سوى رغبة في الموت نفسه، كي يفوا “الدَّين”، الذي يبدو أنه مهّد الطريق لقطع الأعناق.
بعد ذلك، هل في الضحوية ضرب من السياسة؟ هل في الإستناد إلى حقوق مجردة، يجب “سداد الدَّين” لمَن قُتل من أجلها، فعل سياسي؟ وهل في اقتلاع الناس من واقعهم، وفي عرقلة مسؤولياتهم أمام أحداثه، بعقد النقص والحزن والتكدر، نزوع تسييسي؟ الضحوية لا تملي “الإنتقام” للقتلى من الآخرين، مثل الإستشهاد، لكنها، وهذا ربما أخطر، تدفع الناس إلى الإنتقام للقتلى من أنفسهم. والمستفيد دائماً، هو نظام الأبد. ففي الحالة الأولى، يعود عبر التعالي على الواقع. وفي الحالة الثانية، يظهر عبر تجريد الواقع، وتنقيصه من إمكان تجاوز الموت فيه: “أيها الناس، إحزنوا على القتلى، لقد رحلوا بسببكم، سددوا ديونكم اتجاههم، أيها الناس موتوا من أجلهم، موتوا من أجل الموت”. وهكذا، ترجع السطات.
ثم مَن قال أن القتلى، عندما أعدمهم النظام، كانوا مصابين باليأس، مثلما يُطلب من “ذويهم” أو رفاقهم أن يصبحوا؟! فلو أنهم كانوا على هذه الحال لما شكلوا خطراً على “البعث”، فاغتالهم. لكنه لم يقتلهم ليميتهم بل ليُعدمهم، ليؤبدهم، وهذا ما يساعده عليه، في ما بعد، وصف “الشهادة”، أو “الضحايا”. فالأموات من أعدائه أيضاً، وهذا ما دلت عليه إحدى التظاهرات الإبداعية في كفرنبل، حيث سار المحتجون في المقبرة، مرتدين الأكفان، لا ليقولوا أنهم يرغبون في التضحية، أو أنهم مستعدون للإستشهاد، بل ليعلنوا أن حتى الموتى يريدون إسقاط النظام. الموت مرحلة أساسية للإنشقاق عن الأبد. لكنه ليس المرحلة الأخيرة. فلا بد من الإنفصال عنه، والإبتعاد عن الثبات فيها، وعن تأبيد سكانه بالتفجع أو الذنب أو الهجس.
“لماذا لا يحزن السوريون على أمواتهم؟”، يسأل البعض، طالباً منهم إطالة التفجع، وبالتالي، التوقف عن خوض الأحداث، والرجوع إلى النظام. “السوريون” كانوا مؤبدين، أصبحوا موتى، وسيصيرون أحياء وأمواتاً. النظام يمنعهم من ذلك بقتلهم. والخطاب بتحويل “نافذة” الموت، المفتوحة على الأسئلة، إلى ثقب، يعلقون داخله بإجابات جاهزة.
التصوير بدل التوصيف
القتلى ليسوا “شهداء”، ولا “ضحايا”. الوصفان يمنعان الباقين على قيد الحضور من تخطي الموت، يعيقان إطلالهم، أو خروجهم من “النافذة” على واقعهم. بماذا نصف القتلى إذاً؟ كيف نُسيِّس موتهم؟
لنتخلَّ عن التعالي، لننتهي من التجريد، ونحايث الواقع، وبدل أن نصف: نُصوِّر. ذلك أن التصوير كان ضرورياً في السياق السوري، إذ لم يُستعمل لنقل الوقائع والأحداث، التي كتمها وزورها الإعلام البعثي، فحسب، بل إنه كان سلاحاً، استخدمه الخارجون إلى الشارع، لتفتيت الأبد، وسحب الميتات المعتقلة داخله. بذلك، تعرّف الناس إلى الموت وسكانه في الصور، بعدما كان النظام قد أبّده بالأساطير. كما أنهم، ومن خلال الصور أيضاً، أطلوا على الواقع، وكشفوا عن مستوياته، متفاعلين معها، ومتحدين المذبحة البعثية المنظمة.
“حين يرتفع صوت القصف ويتزاحم الرصاص، أتناول دِرعي و أجري نحو المجزرة”، يكتب المصور سعيد البطل في نصٍ مهم، يتحدث فيه عن تجربته التصويرية خلال الإبادة الكيماوية في الغوطة الشرقية. فهو، حتى لو لم يتحدث عن الكاميرا، أو يحملها، في بعض المقاطع، لكنه، يستخدمها لتصوير ما جرى يومها، إذ صار عدسة كاميرا: “أنا عين الراغب بالتعرف على ما جرى ويجري”، خصوصاً أنه، كما يقول: “بتّ أرى كل شيء داخل كوادر، ولا أفهم الواقع جيداً إن لم أضعه ضمن إطار”.
عندما وصل هذا الكائن-العدسة إلى دوما، واكتشف حجم الكارثة، وبعدما أوصل طفلة إلى نقطة إسعافية هناك، نبّهه الطبيب ألا ينام كي لا يَقتله السمّ المنتشر في الهواء. نتيجة ذلك، ينظر سعيد إلى الموتى، ويكتب: “كم بدى مرتاحاً ذلك النائم بهناء، لا شعورياً بتّ أحسده، إذ بدا مرتاحاً وبلا هموم، وتأكدتُ من أنه لا ينجو من المجزرة إلا من مات!”.
“لا أحد ينجو” من الأبد إلا من ينشق عنه بالموت، الذي لم يعلق المصوّر داخله، بل اجتازه إلى تدبيره، إلى تحمل المسؤولية اتجاه الحدث، فأسعف الباقين على قيد التنفس، بلا أن “يتوغل في التفكير واليأس والإستسلام”. صنع ممكنه الواقعي بتجربة التصوير، التي صقلت قدرته، بحيث بات “أكثر هدوءاً واتزاناً والعدسة بيدي… تراني أقف بصمت وأتحرك بهدوء… لدرجة أني أمسي خفياً حين أمسك الكاميرا”. لم يكن القتلى، في تلك اللحظة التصويرية، “شهداء” أو “ضحايا”، على ما يجري وصفهم. كانوا موتى، وموتى فقط، ولأنهم على هذا الوضع، استطاع سعيد أن يخوض واقع قتلهم، وتمكّن من احتمال الكارثة: “ما من شيء يمكن لعدستي التقاطه، ولا يمكنني احتماله”. أمام حدث الموت، تحول سعيد إلى كاميرا، وعلى هذا الأساس، واجه، أو بالأحرى حايث الواقع، استخلص الممكن منه، ولم ينهَر ولا اعتراه الغمّ. ذلك أن ذاته، التي قد تُصاب بالإكتئاب أو الحزن، اختفت حين أمسك بيده آلته الفوتوغرافية. فلا يمكن لذات سابقة على الحدث، أن تتحمل مسؤولية الواقع الذي ينتجه، على العكس، هي تتشكل على إثره، وتستمد قوتها منه، من أجل أن تصنع مُمكنها، أو تخلق سلاحها.
في هذا المجال، تحضر السياسة كمحايثة، لا كتعالٍ أو تجريد، كصناعة الإمكان في الواقع، وليس خارجه، أي بالاستناد إلى الخطاب الديني أو الإنساني. فسعيد، عبر صيرورته الكاميراتية، استطاع أن يسيِّس الموت من حوله، أن “يحسد” الموتى لأنهم نجوا، وأن يسعف الباقين على قيد التنفس من حولهم… إنها سياسة الهروب من أسطورة الأبد، إلى الموت، ومن هذا الأخير وسكانه نحو الواقع الحيّ، “على برّ الأرض، لا شيء يخيفني، أركض كي أبتعد عن صوت الرصاص والقذائف. على البر، أنا موت الموت”، تكتب رنا زيد في “رحلة أخيل السوري الهارب صوب أوروبا”.
في البر وبحره، يهرب الناس، ويُميتون الأبد، ثم، يُميتون الموت. في هذا السياق، تكمن سلطة أخرى لهم، غير منقطعة عن واقعهم، خرجت منه، لتقتلهم، لا لتؤبّدهم، على طريقة النظام، بل لممارسة العنف الواضح اتجاههم. إنها “الدولة الإسلامية”. ما هو موقعها في مسار الخروج من الأبد إلى الموت؟ وكيف مهد لها خطاب اللاممانعة، وكيف وصف حضورها؟
الحلقة المقبلة: الدَّين في الأعناق..إقطعوها!
المدن