الشعب يريد.. ماذا بعد الشعار؟
مالك ونوس
ربما كان من أكثر الشعارات جذباً وفعلاً في السنوات الأربعين الأخيرة. شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” الذي رفعه ثوار تونس وتبناه ثوار مصر ومن بعدهم ثوار الدول العربية الأخرى في الحراك الذي بات يعرف بالربيع العربي وخلعت في ظله طغاة كانوا عصيين عن الخلع وهددت آخرين يتربعون على كراس صارت آيلةً للسقوط. وقد يكون مرد جاذبية هذا الشعار هو الغياب المزمن للآفاق أمام الشعوب العربية طيلة تلك الفترة وانكفاء الأحلام الجماعية لصالح الحلم النازع للخلاص الفردي. أو بأحسن الأحوال وصولها إلى المصير الذي كرّس غريزة الاستمرار على قيد الحياة يوماً بيوم عوضاً عن الأمل بالأفضل نتيجة تجذر القمع السلطوي وتكسر أحلام تحرير فلسطين والتنمية علاوة على انطفاء الحلم الاشتراكي الذي رفعته بعض الأنظمة العربية شعاراً جذب الجماهير إليها وأبعد الرساميل الوطنية عن ساحة العمل والإنتاج ولم ينجح في إقامة المجتمع المأمول ولا حتى نموذج اقتصادي محدد فتَخلَّقَ نتيجة لعدم التحديد هذا نظام اقتصادي عربي مائعٌ، فاقدٌ الهوية الاقتصادية، مضخمٌ جهازَ الدولة المترهل والمتماهي بدوره في شخص القائد الملهم المتفرد بسلطته دون منازع.
ولأن لكل شعار ظروف تضافرت لصياغته وجعله في سياق يعبر عن المرحلة التي أُطلِقَ فيها، تجدنا نرى شعارات تناسب مراحل تاريخية محددة ومهمات كبيرة وأحلام معينة. لذلك وفي تمعن في شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” نستطيع رؤية ما دفع إلى صكه لخروجه بهذه القوة وإلى جذبه لكل تلك الجماهير التي خرجت تردده في مظاهراتها. إنه شيء وحيد فقط هو إنهاء استبداد الطغاة الذين حكموا لفترات تتراوح ما بين نصف قرن وأقل. والرغبة الجامحة لاستبدال الوجوه المملة ولو أدى ذلك إلى ظهور وجوه أكثر قتامة من تلك التي كانت متربعة فوق أنفاسها، وهو ما يفسره غياب لاحقة للشعار تكون بمثابة التكملة أو الشطر الثاني منه وتحدد مهمات ما بعد الإسقاط ليكون الشعار على هذه الشاكلة: “الشعب يريد إسقاط النظام من أجل ….”. حيث من الممكن أن يصبح الشطر الثاني على شاكلة: “..من أجل بناء مجتمع جديد”، أو “..من أجل تحقيق الحرية والعدالة” أو عبارة من أجل الخلاص، وفقط الخلاص، من تلك الوجوه وليكن بعد ذلك الطوفان.
ولكن مهما يكن من أمر ما سيأتي بعد هذا الشعار، سواء من إيجاد شطرٍ جديدٍ يكمله أو واقع جديد يخلقه، فإن هنالك مفاهيم قد غيَّرَها وركائز قد عمل على خلخلتها، إن لم يكن قد اجتثها. فالخروج على أولي الأمر الذي كان يعتبر كفراً، قد أصبح اليوم ثقافةً سائدة وأمراً مسلماً به. بل أن الشعار، الذي بلغ من العمر أكثر من سنتين، قد ترسَّخ لدى الجيل الجديد وأصبح أغنيةً تتردد على ألسنة الأطفال ليدخل ضمن منظومتهم العقلية فيكبر معهم ويتناقلوه زارعاً في لاوعيهم الاستعداد للرفض والتغيير الذي افتقر له الجيل السابق على مدى عقود. كما أن السقوط المريع لبعض الأصنام، سيبرز حالة تنزع المقدَّس عمن تبقى من حكام وتظهرهم أشخاص عاديين يمكن خلعهم حين تنضج القدرة على ذلك دون أن يختل كيان الأمة الذي ربطوا مصيره بمصيرهم. كما يسجل للشعار ضخ دماء إرادة التغيير في العروق التي استوطنت فيها فيروسات أزمنة الخنوع والعجز والتسليم. وجعل الجميع يعتبر نفسه جزءاً مما يجري، بل وأقنع كل فرد أن لدوره أهمية فاعلة ومؤثرة في كل المفاصل. وفتح نقاشات خرجت من دوامة التنظير للأزمات إلى رؤية الواقع واختراق الآفاق.