الشيطان”أردوغان/ عمر قدور
مع مطلع العام 2010، كان رجب طيب أردوغان يُكرَّم بمنحه دكتوراه فخرية من جامعة أم القرى في مكة، تقديراً لجهوده في خدمة الإسلام، وكانت أيضاً لجنة جائزة الملك فيصل العالمية تمنحه جائزتها في المجال نفسه. في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من السنة ذاتها، كان أردوغان أيضاً يتسلم جائزة القذافي لحقوق الإنسان، مع عدم اكتراثه بالانتقادات التي وُجهت له جراء قبوله بالجائزة من نظام ليس له سجل مشرّف في مجال حقوق الإنسان. قبل ذلك، مع مطلع عام 2009، كان أردوغان قد حقق ضربة إعلامية وجماهيرية بتصديه للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز من على منصة مؤتمر دافوس الاقتصادي، ونُظر إلى انسحابه من المؤتمر كعمل بطولي، فاحتشد الآلاف في المطار لاستقباله وهم يرفعون الأعلام التركية والفلسطينية.
الحديث عن أردوغان نفسه الذي تشمت به وسائل إعلام عربية الآن، جراء فشل بلاده في نيل مقعد غير دائم في مجلس الأمن، وتعتبر ذلك انتصاراً لدولها، أو عقوبة مستحقة لأردوغان على مجمل سياساته في المنطقة. إنه “الشيطان” أردوغان، الذي أصبح فجأة كذلك، وبحملة سياسية وإعلامية قلّ نظيرها، من حيث جمعها بين ما يُفترض أنهم أضداد. إذ لا يخفى أن الحملة تمتد من الولايات المتحدة غرباً إلى الخليج بشقيه العربي والفارسي، وصولاً إلى النظام السوري، بعد المرور بالأكراد من مواطني العديد من الدول المعنية. للتذكير أيضاً، شهد عهد أردوغان السماح رسمياً باستخدام اللغة الكردية، مع إعادة الأسماء الكردية لمدن وقرى في كردستان تركيا بعد أن كان استخدام تسميتها الأصل محظوراً. وكما هو معلوم تنعقد مفاوضات منذ سنوات بين رئيس حزب العمال الكردي والحكومة؛ أوجلان المعتقل إثر تواطؤ النظام السوري على إبعاده من دمشق ومن ثم تسليمه للسطات التركية، ومع ذلك حافظ الفرع السوري للحزب على علاقة جيدة بالنظام السوري. يُذكر أيضاً أن رئيس النظام الحالي كان قد سلّم عدداً من أفراد الحزب المطلوبين للسلطات التركية في مستهل حكمه عربوناً لتحسين العلاقات بين الجانبين.
لقد وصلت الحملة عليه، في الإعلام العربي والغربي، إلى حد تحميل أردوغان المسؤولية الشخصية عن تراجع أداء المنتخب التركي لكرة القدم. مع ذلك يبقى التغير الأهم هو التراجع عن التنظيرات السابقة في ما يخص تجربة أردوغان وحزب العدالة والتنمية عموماً، التجربة التي عُدّت قبل عقد من الآن نموذجاً يُحتذى به للمواءمة بين الإسلام السياسي والعلمانية. فقد دُبّجت مقالات وأبحاث عديدة، عربية وغربية، تتناول أهمية التجربة التركية في محيطها المشرقي تحديداً، وعُدّت دليلاً لحركات الإسلام السياسي العربية، بخاصة مع خطها التنازلي على المستوى الأيديولوجي، بدءاً من حزب الرفاه مروراً بحزب الفضيلة وصولاً إلى العدالة والتنمية. لكن، بدلاً من تنصيب أردوغان رائداً متقدماً بمراحل على “الإخوان” العرب، صار يؤخذ عليه انحداره إلى ما هو أشد تعصباً منهم، صار يُنظر إليه كداعشي منبوذ في محيط من أنظمة الإعتدال والعلمانية.
المقارنة بين “الشيطان” أردوغان و”الملاك” الذي كانه إلى وقت قصير، تحديداً حتى وقوفه ضد انقلاب السيسي، هذه المقارنة لا تثير الاستغراب بقدر ما تثير السخرية، لأنها لا تقنع بأقل من الحد الأقصى في الحالتين، ولأنها دلالة على العقل السائد البعيد عن مقتضيات السياسة الفعلية. ففي الحالتين تُنسى تركيا كقوة إقليمية كبرى لها مصالحها التي لا ترتبط بشخص، إلا بقدر قدرته على خدمتها، ويُنسى أن السياسة الخارجية للدول لا تُبنى على اعتبارات أخلاقية مهما جرى التغني بها. ولو لم يكن أردوغان يمثّل كتلة كبيرة من المصالح في بلده لما جرى انتخابه، في ذروة الحملة الخارجية والداخلية عليه، رئيساً في تصويت ديمقراطي شعبي. وفي مقدم تلك المصالح الاقتصادية منها، فحجم التبادل التجاري التركي بلغ من نهاية عام 2013 ما يقارب 400 بليون دولار، مع الحفاظ على علاقات تجارية وثيقة حتى مع دول شهدت العلاقات السياسية معها خلافات عميقة مثل إيران وروسيا وإسرائيل.
فضلاً عن ذلك، سيكون من السذاجة والتبسيط فهم السياسة الخارجية لأردوغان بوصفها محاولة لاسترجاع حلم السلطنة العثمانية، حتى إن لعب الرجل على عواطف بعض الأتراك في ما خص “الماضي التليد”. فتركيا من موقعها الإقليمي القوي باتت لها شبكة من المصالح والمطامع تجعلها بعيدة عن ذلك الجار “المسالم” القانع فقط بشبكة جيدة من العلاقات الاقتصادية، لأن الأخيرة لا بد أن تفرض تبعاتها على السياسة أيضاً. إن نظرية “صفر مشاكل” التي تبنتها حكومة أردوغان كان لا بد لها أن تنتهي ضمن صراع إقليمي ضارٍ، تشكل إيران وإسرائيل قطباه الآخرَيْن وتطمح دول عربية ليكون لها دور فيه، وسيكون ضرورياً هنا التنويه بأن العديد من سياسات أردوغان الخارجية لم تكن لتمر لو لم يكن عليه اتفاق كبير ضمن الدائرة الصغرى للقرار القومي، متمثلة بمجلس الأمن القومي الذي يهيمن عليه العسكر بميولهم المعروفة.
إن أي تلخيص لسيرة أردوغان سيكون مجتزأً ما لم يأخذ بالحسبان المتغيرات في المجتمع التركي نفسه، لكن في ما يخص الجانب العربي من سيرته “التراجيدية” ربما يكون ضرورياً القول بأن الرجل ليس عربياً، بمعنى أنه ليس ملاكاً ولا شيطاناً.
المدن