الصراع على سوريا.. بداية بلا نهاية/ فريد الخازن
الصراع على سوريا قديم العهد. النزاع المسلح الدائر في سوريا يعكس هذا الواقع في سلسلة حروب متداخلة بين النظام والمعارضة، وبين عرب المشرق وعرب الخليج، وبين السنة والشيعة، وبين الغرب والغرب، وبين تركيا وإيران، وبين إسلاميّي «الإخوان» والسلفيين، وبين الاكراد والعرب، وبين شروخ المجتمع الاخرى، المنظور منها والمستور. هذا المشهد الحافل بالتناقضات ليس جديدا في سوريا، الدولة والجغرافيا والمجتمع، أقله في الحقبة المعاصرة، منذ انهيار السلطنة العثمانية تحديدا.
بدأ الصراع على «تركة» السلطنة أثناء الحرب العالمية الأولى بين العرب أنفسهم وبين بريطانيا وفرنسا. وتأرجحت الدولة في سوريا بين كبرى وصغرى وكذلك هويتها بين قومية عربية واخرى سورية. الثورة العربية التي أعلنها الشريف حسين ضد السلطنة انطلقت من الحجاز في 1916، إلا ان عروبتها ظلت مبتورة بعيداً من دمشق، العاصمة السياسية والعسكرية للدولة العثمانية، في المشرق. وبين لندن وباريس ازداد التناحر بعد انتهاء الحرب، برغم اتفاقية سايكس – بيكو التي حددت مناطق نفوذ الحليفين. بريطانيا، الاقوى عسكرياً وسياسياً، سعت حتى 1920 الى إدخال تعديلات على الاتفاقية، إلا انها قوبلت برفض فرنسي، ولم تَحسم باريس أمرها بالنسبة الى لبنان وسوريا (دولة واحدة، دولتان، أو أكثر) إلا في ايلول 1920 لأسباب عديدة، منها ما ارتبط بأولويات السياسة الفرنسية ومصالحها في المنطقة بعدما استقر الرأي في لندن على إنشاء كيان لدولتين بقيادة هاشمية، العراق والاردن، إضافة الى خصوصية الحالة الفلسطينية بسبب «وعد بلفور» في 1917. حركة المعارضة العربية للمشروع الصهيوني كانت الأعلى صوتاً في سوريا منذ مؤتمر بلودان في 1937 الذي أعلن رفضه تقسيم فلسطين. وفي سوريا ايضا حركة عروبية ناشطة اصطدمت بسعي الأمير فيصل الهاشمي لإقامة دولة تحت الانتداب الفرنسي، وحسمت فرنسا الأمر عسكريا في معركة ميسلون، وانتقل الامير فيصل ملكا الى العراق بدعم بريطاني.
في مرحلة ما بعد الاستقلال، تأسس حزب «البعث» بتلاقي أجنحته السورية بين دمشق وحماه (عفلق والبيطار والحوراني) وزكي الارسوزي المتحدر من لواء «الاسكندرون السليب». وفي زمن الاندفاعة القومية بقيادة جمال عبد الناصر في الخمسينيات، تحققت الوحدة بين مصر وسوريا بين عامي 1958 و1961. لكن في الأساس، مشروع الجمهورية العربية المتحدة ارتبط بحزب «البعث» في سوريا، المستفيد الاول من قيام الوحدة ومن سقوطها. وقبل ذلك، برز مشروع سوريا الكبرى بقيادة هاشمية، إلا انه لم يبصر النور فعلياً. أما المنافس الجدي للمشروع القومي العربي في تلك الحقبة، فكان طرح القومية السورية بقيادة مؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، انطون سعاده، الذي سرعان ما أصبح له مؤيدون كثر على امتداد الأمة السورية المفترضة.
في الستينيات تميزت سوريا براديكالية متشددة، قومية وماركسية، بعد هزيمة 1967 ووصول حزب «البعث» الى السلطة في 1963، وسرعان ما انقسم الحزب على أساس قطري بين العراق وسوريا بقيادة الجناح العسكري في كلا البلدين. قبل حرب 1967 كانت الجبهة السورية – الاسرائيلية الأكثر قابلية للانفجار، وجاءت حرب 1973 لتؤكد مقولة أن لا حرب إلا مع سوريا ولا سلام بدونها. وفي لبنان سارعت سوريا بدعم التنظيمات الفلسطينية المسلحة منذ أواخر الستينيات وأغلقت الحدود مع لبنان مرات عديدة، الى ان اندلعت الحرب في 1975، ووقع الصدام العسكري لاحقا في لبنان بين المنظمات الفلسطينية والنظام السوري واستمر حتى منتصف الثمانينيات.
في ظل حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، شهدت سوريا فترة استقرار غير مسبوقة وبراغماتية لافتة في السياسة الخارجية، خصوصا بعد حرب 1973، وجاءت حروب لبنان طيلة خمسة عشر عاما لتعطي دمشق هامشاً واسعاً للعب أدوار مفصلية تجاوزت قدراتها الذاتية. فمع تحول لبنان قاعدة وحيدة للكفاح المسلح بعد حرب 1973، باتت سوريا في موقع بالغ الأهمية والتأثير، لا داخل لبنان فحسب، بل ايضا في الشأن الفلسطيني والعربي المرتبط بالنزاع مع اسرائيل. في المقابل، أصبح الجولان المحتل مضرب مثل في هدوئه منذ 1974 بين دولتين في حالة حرب لا تسوية لها، وباتت مصر عمليا خارج النزاع بعد اتفاقية «كامب ديفيد» في 1979، بينما جنوب لبنان ساحة حرب مفتوحة. وما لبثت أن تركزت عناصر القوة والنزاع في يد دمشق مع بروز إيران الاسلامية كقوة اقليمية ودخولها الى ساحة الحروب اللبنانية بعد الاجتياح الاسرائيلي في 1982. وفي الداخل وقع الصدام باكرا بين النظام السوري و»الاخوان المسلمين» بعد فترة هدوء قصيرة. هكذا تحالفت سوريا «العلمانية» مع إيران الاسلامية «الشيعية» واصطدمت مع الاسلاميين «السنة» وتصدت للرئيس المصري أنور السادات بعد معاهدة السلام بين مصر واسرائيل.
أعطت حروب لبنان سوريا مجالاً واسعاً لحركة سياسية فاعلة في المحيط الاقليمي، وموقعاً متقدماً في توازنات السياسة الدولية في المنطقة. هكذا استطاعت دمشق ان تحافظ على علاقتها الاستراتيجية مع موسكو وأن تقيم علاقة عمل مثمرة مع واشنطن، وكادت أن توقع معاهدة سلام مع اسرائيل في العام 2000، بعدما أعلن الرئيس الاسد في 1994 ان السلام خيار استراتيجي.
الاجتياح الاميركي للعراق في 2003 بدّل المواقع والأدوار والعلاقات الأميركية – السورية. ذهبت دمشق بعيدا في صدامها مع واشنطن في العراق وفي تحدّيها المجتمع الدولي في لبنان بعد قرار مجلس الامن 1559. وعلى اثر الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة في 2005، انسحب الجيش السوري من لبنان وان لم تنسحب دمشق سياسيا بالمقدار عينه. ومع انسحاب الجيش الاميركي من العراق في 2008 باتت ايران الدولة الاكثر نفوذا في المنطقة الفاصلة بين الخليج والمشرق، الى ان هبّت رياح التغيير، من العالم العربي هذه المرة، فزعزع «الربيع العربي» قلاع الانظمة المعسكرة، ولم تَسلَم سوريا. إلا ان سوريا كانت نسبيا أكثر جهوزية من سواها، اذ وصلت العاصفة متأخرة بعد تونس ومصر وليبيا واستطاع النظام أن يصمد. وسرعان ما تبيّن ان الراهنات الاقليمية والدولية على سقوط النظام السوري كانت في غير محلها.
الصراع على سوريا في المرحلة الراهنة أخذ ملامحه الداخلية بين حكم متماسك ومعارضة مشتتة، والاقليمية بين تركيا وقطر والسعودية بمواجهة ايران، وفي مجلس الامن بين روسيا والصين بمواجهة أعضاء مجلس الامن الآخرين. الولايات المتحدة، خلافا للاندفاعة المتهورة في عهد جورج دبليو بوش في حرب العراق، لا تريد تكرار التجربة الليبية التي أغرقت البلاد في الفوضى الكاملة، وهي الآن منشغلة في مفاوضات شائكة مع ايران حول المسألة الاستراتيجية الأهم المرتبطة بالملف النووي. تركيا هي الأكثر حماسة لإسقاط النظام السوري، لكن السؤال من سيملأ الفراغ أو يديره في مرحلة انتقالية لا أحد يعرف متى تبدأ وكيف ستنتهي. والصراع على سوريا يفتح باب الانهيارات الكبرى بعدما أصبح تنظيم «داعش» القوة العسكرية الاولى في النزاع بمواجهة الدولة والجيش والمجتمع السوري بأطيافه المذهبية والعلمانية والقومية كافة، وحتى الإسلامية منها. الصراع على سوريا بنسخته الحالية هو بلا شك أكثر تعقيداً وصعوبة من أي من الصراعات السابقة التي شهدتها البلاد منذ مطلع القرن العشرين الى اليوم.