الطائفية كما تبدو للجهلة…
ثائر ديب
ما الذي يعنيه اكتشافنا، في لحظة ما من تقدّم فهمنا العالم، كبشرية وكأفراد، أنَّ الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس؛ أي بخلاف ما يخدعنا بصرنا و ما يظهره لعقولنا؟
أحسب أنَّ من بين ما يعنيه ذلك، إلى جانب أشياء لا يحصرها العدّ، ما كانت قد حسمته العلوم الحديثة والفكر الحديث من أنَّ مفاهيم علمية اختصاصية قائمة على مناهج علمية مُخْتَبَرة هي المؤهّلة لاختراق الظواهر إلى جواهرها، بعيداً عن خداع الحواس وما يدعى “الحسّ المشترك” أو “الفهم الشائع”، كما أفضّل أن أدعوه، ذلك “الفهم” الذي عادةً ما يكون مضلّلاً ويمكن للجميع أن يشتركوا به، من الجاهل إلى المتعالم إلى العالم إذا ما أراد أن يركن فهمه العلمي جانباً.
ما سبق لا يعتدي على حقّ أي أحد في أن يقول ما يشاء، لكنه يحافظ على حقنا في أن نقول في قوله ما وفّره الفكر وما وفّرته العلوم من إمكانية نقد الأقوال الخطابات والإيديولوجيات.
وما يدفعني إلى سوق ذلك كلّه هو ما نراه من إباحة كتبة (كاتبين وكاتبات) لأنفسهم أن يتنطحوا إلى دقائق وحيثيات وظواهر معقدة، مثل الطائفية، تنتمي دراستها إلى حقول علمية لم يتوفّروا عليها ولا يمتلكون أدواتها المفهومية ولم يطلعوا على مناهجها ولا على ما دار ويدور من صراعات فكرية حولها، مكتفين بما يظهر لأعينهم كأنه بداهة يوافق عليها الجميع. فما إن يرون ابن طائفة معينة يقتل ابن طائفة أخرى حتى يتيقنوا أن ثمّة صراعاً طائفياً. وما إن يروا تردد أقسام من طائفة معينة في مشاركة أبناء شعبهم انتفاضة ضد الظلم والاستبداد حتى يعتبروا أنَّ دافع التردد طائفي هو أيضاً، لا يغيّر لديهم شيئاً تردد مدنٍ كاملة بكلّ طوائفها ولا مشاركة آلاف من أبناء الطائفة المعينة.
ولأنني مثل أولئك الكتبة والكاتبات، جاهلٌ بالأدوات المفاهيمية العلمية والمناهج والمعارف اللازمة لدراسة الطائفية وفهمها، فإنني أكتفي بالإشارة إلى بضع ملاحظات وبطرح بعض الأسئلة:
– يرى بعض الملاحظين طوائف، أو جماعات منها، تتصارع فينتهي التحليل بالنسبة لهم ويعتبرون أنَّ الصراع صراع طائفي، فالحقيقة ليست سوى ما يظهر لأعينهم، في حين يرى آخرون الظاهرة عينها فيعتبرون أنَّ ذلك ليس سوى بداية التحليل والفهم، ويتساءلون ما الذي يدفع صراعاً لأن يبدو طائفياً، هل الطائفية جذر الصراع أم مجرد تجلٍّ من تجلياته؟
– ما الذي يدفع أحداً لأن يناصر شخصاً لم يسبق له أن رآه أو سمع به لمجرد أنه من تلك “الجماعة المُتَخيَّلة” التي هي طائفته (وكلمة “مُتخَيَّلة” هنا ليست بمعنى “مُلَفَّقة” أو “مُختَرَعة” بل بالمعنى الذي يستخدمه بندكت أندرسون حين يشير إلى القومية بأنها “جماعة مُتَخَيَّلة”, ولا مجال هنا لشرح ذلك, فاشتروا الكتاب لو سمحتم)؟
– أين تبدأ حدود طائفة وأين تنتهي, داخل البلد الواحد وعبر البلدان؟
– هل يبقى منتمياً للطائفة من يخرجون على إجماعها؟
– من الذي يمثّل طائفةً ما, أكثريتها ولو كانت على خطأ أم أقليتها وأفرادها إن كانوا على صواب؟
– من الذي أجرى استفتاءً أو إحصاءً ليعرف أكثريات الطوائف وأقلياتها؟
– على مَنْ تقع مسؤولية فعلٍ طائفيّ, على الفاعل أو الفاعلين أم على أبناء الطائفة جميعاً؟
– يرى بعضهم أنه يكفي أن يدين شخص واحد من طائفة معينة فعلاً تقوم به جماعة من هذه الطائفة حتى لا يعود هذا الفعل طائفياً, فماذا لو أدانه آلاف أو مئات آلاف من أبنائها؟
– ما السّحر الذي يجعل هويتي الطائفية تحدّدني وتعرّفني أكثر من هويتي الطبقية أو القومية أو المهنية أو القرابية أو المدينية…..الخ؟
– هل يعني انتماء قمة سلطة إلى طائفة ما أن تلك السلطة هي سلطة هذه الطائفة؟
– هل صحيح أنّ الطائفة علاقة سياسية, كما يقول مهدي عامل, وليست جماعة اجتماعية قائمة بذاتها, متماسكة بلحمتها الداخلية, متكررة دون تغير ودون صراع في داخلها أو تناقضات تشقّها؟ هل صحيح, كما يقول, أنها ليست جوهراً أو عنصراً بسيطاً أولاً؟
– هل صحيح, كما يقول أسامة المقدسي, في كتابه “ثقافة الطائفية”, أنّ الطائفية نتاج الحداثة, وأنَّ المقصود الآن بكلمة “طائفة” يختلف عمّا كان يُقصد بها حتى بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟
هذا بعض قليل من أسئلة كثيرة لا تخطر في بال من يتنطّحون ويتنطّحن لهدايتنا في باب الطائفية الذي يجهلونه, والذي لم تخوّلهم فيه أية مقدرة بحثية, أو أكاديمية, أو أحد, اللهم إلا “هَبَلَهُم” الذي لا يظهر لهم من الطائفية سوى سطحها الخادع, مثلما تظهر الشمس للجاهل, خداعاً, أنها هي التي تدور, أو ربما, إن كانوا “من الأقليات”, رغبتهم في نيل شهادة نضالية هذه الأيام يتصدّق عليهم بها أيّ “أكثريّ”, وكأنّ هذا الأخير “مناضلٌ” مسبقاً لمجرّد كونه “أكثريّ”.
البداهة الواضحة, كما يقول العارفون, هي الأكثر خداعاً, وعادةً ما تخفي خلاف ما تبدي.
أريحونا من هذا اللغو, فهو خطير هذه الأيام, على الرغم من كونه مجرد لغوٍ.