العراق والمنطقة: نكوص أم تقدم؟
فالح عبدالجبار
تكتسح المنطقة العربية – الاسلامية موجة تغيير قوية، ذات طابع مزدوج عفوي ومنظم للمرة الأولى، يقف في المقدمة منها جيل جديد، يتميز بانه لا-ايديولوجي، وانه يعتمد على وسائل الاتصال الالكترونية، ويطالب بنظام ديموقراطي، وازالة الفساد، وبحصة من الثروة الاجتماعية.
موجة التغيير هذه بدأت في ايران 2009، بعد تزييف الانتخابات الرئاسية في حزيران 2009، وانتقلت تأثيراتها الى تونس كانون الاول 2010، ثم مصر شباط 2011، ثم الى اليمن والبحرين، واخيراً: سورية، مع محاولات تحرك في الاردن، وفي الجزائر، على رغم انها محدودة.
أغلب التقديرات والتحليلات تشير الى استمرار هذه الحركة عودة الى نقطة الانطلاق الاولى: ايران، ان عاجلاً او آجلاً.
هذه الموجة الجديدة، موجة الشوق الى الحرية، ستؤدي في مداها المكتمل الى شيئين جوهريين، اولاً: سقوط النموذج الناصري: استبداد العسكر بحزب واحد [الاتحاد الاشتراكي ايام زمان] او بنظام تعدد احزاب مزيف، يهيمن فيه حزب الرئيس [الحزب الوطني في مصر بزعامة مبارك، او الحزب الدستوري بزعامة بن علي، الخ]. النموذج الناصري يسود في اليمن، وسورية، والسودان بصيغ مختلفة. وثانياً: سقوط النموذج الخميني: استبداد طبقة رجال الدين بحزب واحد او بتعدد قوى، وسقوط ايديولوجيته الدينية المتزمتة. [لهذا النموذج امتدادت سياسية او سياسية –ايديولوجية في لبنان/العراق/البحرين/الكويت/اليمن/غزة].
عملية التحول هذه واضحة المعالم وتشبه ما حصل في اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق خلال عقد الثمانينات، وما حصل في اميركا اللاتينية خلال عقد التسعينات. فهــذه المناطق هي وعاء حضاري – سياسي واحـــد له سمــات متشابهة: انظمة الحزب الواحد الاشتراكية في اوروبا، او النظم العسكرية المستبدة في اميركا اللاتينية.
لعل عواقب وتأثيرات/سقوط/تحول/اصلاح/النموذجين الناصري، والخميني، على المنطقة عموماً، وعلى العراق خصوصاً، متعددة. فهناك تعميم فكرة الاصلاح الديموقراطي، وتعميم فكرة قدرة الحركات القاعدية للشباب على احداث التغيير [الشباب دون سن الثلاثين يشكلون بين 62-68% من السكان]، وهناك ايضاً سقوط وتآكل الايديولوجيات القديمة، الاشتراكية القومية، والاسلامية التنموية، كستار للاحتكار السياسي والنهب الاقتصادي (خصوصاً في بلدان النفط)، اضف الى ذلك تعميم فكرة محاسبة الحكومات على الفساد، والتقصير، خرق حقوق الانسان (التعذيب)، والاحتكار الشخصي للقرار بصوره العديدة.
خارج ذلك كله هناك تنامي قوة العامل الدولي المساند (اميركا، كندا، اوروبا الغربية، اليابان وبالطبع مجلس الامن –الامم المتحدة) في دعم حركات الاصلاح، بالضغط السياسي، والعقوبات الاقتصادية، وصولاً الى التدخل العسكري الجزئي (كما في ليبيا)، مقابل تضاؤل قوة العامل الدولي والاقليمي المعاكس (روسيا، الصين، الهند، اسرائيل وبعض دول اميركا اللاتينية) بل انحساره.
النموذج السياسي العراقي الناشئ بعد عام 2003 تجاوز مستوى النموذج المصري، من حيث تفكيك نظام الحزب الواحد وفك الاقتصاد الاوامري وفك احتكار انتاج المعلومات.
لكن النموذج العراقي لم يصل بعد الى التفكيك الكامل للنظام القديم، بل ان هناك محاولات (ناجحة في بعض الميادين) لاعادة احتكار الاقتصاد، واعادة احتكار الثقافة، واحتكار المؤسسة العسكرية، واخضاع الهيئات المستقلة، والمحكمة الدستورية، لسطوة السلطة التنفيذية، وهذا مسار مؤكد نحو اشكال جديدة من الاستبداد، بغطاء ديموقراطي مزيف. وبالتالي فإن النموذج العراقي يسير في اتجاه معاكس لحركة الاصلاح في المنطقة.
لكن السقـــوط التام لنمـــاذج الاستبــــداد سيتسارع بعد حــــل الاستعصاء الليبي، وتطور حركة الاحتجاج في سورية نحـــــو مستوى اعلى. ولعل انتقال الازمة الى النموذج الخميني فــــي ايران، سيترك اثره الواضح على اوضاع العراق، على الاقـــل في مجالات عديدة، منها: نشوء بيئة اقليمية – عالمية لصالح الاصلاح الديموقراطي. فمثلاً سورية وايران ستنشغلان باوضاعهما الداخلية انشغالاً يضعف (او يعطل) تدخلاتهما المتواصلة في العراق، سواء بالمال او السلاح او الضغط السياسي، وسيقوي استقلالية القوى العراقية، وبالتالي استقلالية العملية السياسية في العراق التي يمكن ان تسير بفعــــل ديناميكيتها الداخلية الخاصة اكثر من ذي قبل. وبالطبع فإن تأخر الاصلاح السوري والايراني من شأنه ان يقود الى حالة معاكسة في العراق وهي اشتداد التقارب الايراني – العراقي، ونمو اثر العامل الايراني في العراق. وعلى العموم فان سقوط او تخلخل النموذجين المصري والخميني، سيؤدي الى تخلخل الايديولوجيات المستمدة منهما، ويترك فراغاً في مجال الافكار والثقافة السياسية والقيم، ما يفتح الطريق لمحاسبة الاحزاب والحكومات على اساس الانجاز الفعلي، لا التماهي معها على اساس الهويات الجزئية. وسيفضي ذلك الى سقوط الشرعية السياسية المستمدة من هذه الايديولوجيات. ولعل العراق سيشهد في حالة تعميم الاصلاح اقليمياً توسعاً في حركات الاحتجاج القاعدية ضد الطائفية، والفساد المالي والاداري ونزعات الاحتكار السياسي، والفشل في الخدمات، والفشل في رسم اية سياسة اقتصادية واضحة او معقولة. اما السيناريو المعاكس فسيضع العراق في رحلة تقهقر، اي اشتداد امراض الدولة والمجتمع، مرض المركزية المفرطة، ومرض الاقتصاد الاوامري، ومرض الريعية النفطية، ومرض العصبوية الحزبية (تحويل الادارات الى اقطاعيات)، واخيراً المرض العربي المزمن: نهب موارد الدولة.
هذه آفات مولدة للشقاق داخل الدولة والمجتمع، وهو محرك هائل للاحتجاج الاجتماعي ضد الدولة – الاحزاب، ومفتت لعمليات بناء الامة nation-building، وتشكيل الدولة state-formation.
هذه الامراض تنخر في جسد الدولة والمجتمع، وهي تعمل، بالتضافر، مولدة نتائج قد تبدو غامضة المآلات لبعض المراقبين.
لعل انهيار الامال والتوقعات، نتيجة هذه وغيرها من الامراض البنيوية، يؤدي في جل الاحوال الى اغتراب المجتمع عن النخب القائدة، وعن الدولة بالتالي، كمؤسسات وكبؤرة للشرعية.
وهو يؤدي في بلدان الايديولوجيا الجماعية الى سقوطها وابدالها بالايديولوجيا القومية (الاتحاد السوفيياتي، يوغسلافيا، الخ)، اما في بلدان الايديولوجيا القومية فالمآل هو سقوط هذه الاخيرة، وابدالها بالايديولوجيا الاسلامية (جزائر بومدين، سقوط عبدالناصر، السودان، العراق، الخ)، اما بلدان الايديولوجيات الاسلامية فستتعرض للسقوط نفسه الى الإيديولوجيا.
الحياة