العلم السوري وذاكرة وطن.
خالد المشرقي
بين تسميتي علم الاستقلال وعلم الانتداب، تبرز واحدة من أهم نقاط الخلاف السوري السوري كإحدى “الحقائق” المتنازع عليها بين السوريين ضمن جدلية (الوطنية – الخيانة) المتكرسة في فكر وثقافة الملايين منهم (أي السوريين) اليوم.
اصطلاحاً، يطلق على العلم الذي تبنته الثورة السورية بعد أشهرعلى انطلاق شرارتها اسم العلم الأخضر، والسبب في ذلك هو أن اللون الأخضر يحل محل الأحمر في أعلى العلم بينما يتغير لون النجوم (الكواكب) من الأخضر إلى الأحمر.
لايُعلم تماما متى حمل أول متظاهر العلم الأخضر، لكنه حُمل رسمياً لأول مرة في في الحراك السوري في أنطاليا بتركيا من قبل بعض المشاركين في أول مؤتمر لبعض المعارضة بتاريخ 01-06-2011. مؤتمر أثار من الجدل ماأثار ولم تحضره المعارضة في الداخل كما قاطعه كثيرون من معارضة الخارج من بينهم برهان غليون نفسه، فيما حضره الإخوان المسلمون بصفة مراقب، قبل أن يعقدوا في اليوم التالي مؤتمرا دعوا إليه هم أنفسهم في بروكسل.
إن أي متابع لمجريات الأحداث في سوريا لن يصعب عليه أن يلاحظ أن رفع هذا العلم جاء في سياق مشابه لتبني الثورة الليبية منذ انطلاقها لعلم ليبيا السابق المختلف عن العلم الذي جاء به القذافي، ويعلم كل من يقرأ هذه الكلمات أن المتظاهرين السوريين كانوا قبل ذلك يحملون العلم السوري الحالي في مظاهراتهم وفعالياتهم، بمافي ذلك المجلس الوطني الذي استخدم العلم السوري الحالي لدى إعلان تشكيله، كما لن يصعب على المتابع أن يدرك أن لاختيار هذا العلم أسباباً قد يكون أهمها إعلان القطيعة مع كل مايخص النظام السوري الحالي، والمقصود بالنظام هنا ليس حكم العائلة فقط بل حكم الحزب بالكامل، على اعتبار أن العلم الحالي لسوريا استخدم في زمن الوحدة ثم في زمن البعث.
مع مرور الزمن وزيادة الاستقطاب بين السوريين تكرس العلم الأخضر رمزاً للحراك السوري المعارض، فقد وجد فيه كثيرون تمييزاً للمظاهرات عن المسيرات الموالية للنظام بداية، وتمييزاً للحملات والفعاليات التي قام بها ناشطون معارضون عن فعاليات النظام والموالاة فيمابعد، انتهاء بتمييز كامل لدولة النظام عن الدولة التي تطالب بها المعارضة. وقد ساعد في هذا التكريس الاحتكار الذي مارسه النظام وموالاته على كل الرموز الوطنية السورية ومن بينها العلم، وحرص هذا النظام وإعلامه على تجريد المنتفضين عليه من الوطنية ورميهم بشتى أنواع تهم الخيانة والعمالة إلى أن وصل الأمر باتهام الحماصنة مثلاً برفع علم اسرائيل في باب السباع الحمصية.
في هذا المناخ من الإلغاء الممارس بين طرفي النزاع في سوريا، يحاجج النظام وإعلامه وموالاته بأن العلم “الأخضر” هو علم فرضه الانتداب الفرنسي على السوريين وأن النجمات الثلاث فيه ترمز إلى التقسيم الطائفي لسوريا إلى دويلات ثلاث، فيما لايعطي من يتبنون هذه النظرية تفسيراً واضحاً ومقنعاً لاستمرار رفع العلم الأخضر في عهد الاستقلال وحتى قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958. وفي هذا السياق يذكر مثلاً تقرير التضلليل الإعلامي الذي تبثه قناة الدنيا المملوكة من قبل النظام أن العلم الأخضر تم فرضه من قبل المفوض السامي الفرنسي السيد (هنري بونسو) الذي أصدر قرارا برقم 3111 يقضي بوضع دستور دولة سوريا والذي جاء في أحد مواده (بحسب الدنيا): “يكون العلم السوري على الشكل الآتي: طوله ضعف عرضه، ويقسم إلى ثلاثة ألوان متساوية متوازية، أعلاها الأخضر فالأبيض فالأسود، على أن يحتوي القسم الأبيض منها في خط مستقيم واحد على ثلاثة كواكب حمراء ذات خمسة أشعة ترمز إلى الدويلات الطائفية الثلاثة التي شكلت سوريا بحسب تقسيم الاستعمار الفرنسي”
قد يصدق جمهور الدنيا والإعلام السوري عموماً أن الوثيقة القانونية الأرفع للدولة السورية (حتى ولو كانت تحت الانتداب الفرنسي) يمكن أن تتضمن إشارة إلى دويلات طائفية فرضها الاستعمار الفرنسي، إلا أنه لن يصعب على أي متابع منطقي ملم ببعض التاريخ السوري أن يدرك أن الإضافة المتضمنة الإشارة الطائفية المذكورة هي من بنات أفكار القائمين على الدنيا أو من اختراع أحد الأميين الكثر المتعاطين في الشأن السياسي والإعلامي في أحسن الأحوال، وأن نشر قناة الدنيا لـ “حقائق” كهذه مماثل تماماً مثلاً لنشر”حقائق” تثبت ماسونية الصورة البنية الشهيرة التي تبنتها حملة التضامن مع الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام (والتي تبين أن مصممها هو ناشط يساري وفنان فلسطيني من الضفة الغربية وشقيق أحد الأسرى)، ومماثل أيضاً لنشر “حقائق” خطة السقوط المدوي الشهيرة بتفاصيلها الدقيقة بما فيها اسم الشركة المنتجة للفيلم الهوليودي الذي يحمل نفس الاسم.
وبغض النظر عن الإضافة الساذجة المتعمدة على نص المادة الدستورية المذكورة، فإن الدنيا ومنظومة الإعلام السوري زورت في إطار ماتسميه “فضحها للتضليل الإعلامي” جزءاً هاماً من التاريخ الوطني السوري، وقد ساعدها في ذلك تقلص حجم المعلومات التي يوفرها النظام السوري للشعب عن هذه المرحلة في مناهجه التعليمية، مقابل إغراقها بكل مايتعلق به.
مالم تذكره قناة الدنيا وغيرها هو أن الدستور المذكور المتضمن وصف العلم السوري “الأخضر” هو دستور تم انتزاعه من قبل الشعب السوري من هنري بونسو ومن ورائه الحكومة الفرنسية كخطوة من خطوات الاستقلال السوري العديدة وليس العكس، وأن هذا الدستور ينص على أن “سوريا دولة واحدة غير قابلة للتجزئة وأن نظام الحكم جمهوري برلماني”، وقد تمت صياغته وإقراره ضمن السياق التاريخي التالي:
رفض الفرنسيين في النصف الأول من عشرينيات القرن الماضي إلغاء الأحكام العرفية وإنشاء جمعية تأسيسية سورية.
اندلاع الثورة السورية الكبرى تحت قيادة سلطان باشا الأطرش عام 1925.
تشكيل حكومة تاج الدين الحسيني ومفاوضاتها مع المفوض السامي الفرنسي (هنري بونسو) حول تشكيل الجمعية التأسيسية تحت تأثير ضربات الثورة السورية .
رضوخ المفوض السامي والدعوة لانتخاب الجمعية التأسيسية المكلفة باقتراح الدستور في نيسان 1928، والتي عقدت أولى جلساتها في حزيران 1928 برئاسة هاشم الأتاسي وعضوية 67 عضواً من الكتلة الوطنية والفئات الوطنية الأخرى من جميع المناطق السورية، من بينهم شكري القوتلي وفارس الخوري وسعدالله الجابري، وانبثق عنها لجنة صياغة الدستور المكونة من 27 عضواً برئاسة ابراهيم هنانو وعضوية فوزي الغزي (الذي لعب الدور الأكبر في صياغة الدستور والدفاع عنه، ومات مسموماً بعد أقل من عام في حادثة يشتبه بضلوع فرنسا فيها).
وضع الدستور المكون من 115 مادة بما فيها المادة التي تنص على شكل العلم السوري في آب 1928
رفض المفوض السامي للمواد 73 – 74 – 75 – 110 – 112 من الدستور والتي تبحث في شؤون الوحدة والتمثيل الخارجي وتعيين الممثلين والأحكام العرفية والجيش، ومطالبته الجمعية التأسيسية بفصلها عن الدستور وإضافة مادة (116) تشترط مصادقته على قرارات الجمعية قبل أن تصبح سارية، وذلك نظراً لأن “الحكومة الفرنسية لا يسعها أن تنشر وتنفذ دستورا يحرمها من الوسائل التي تساعدها على القيام (بالواجبات) والالتزامات الدولية التي أخذتها على نفسها”، إلا أن المجلس التأسيسي رفض (بالغالبية) طي المواد المذكورة وأصر على الدستور كاملاً.
تعطيل الجمعية التأسيسية من قبل المفوض السامي الفرنسي لمدة ثلاثة أشهر بداية ثم لأجل غير مسمى بدءاً من شباط 1929
اندلاع احتجاجات واضرابات في البلاد رفضاً لتعطيل الجمعية التأسيسية وإيقاف نشر الدستور.
إصدار الدستور في أيار عام 1930 ضمن تسوية مع القوى الوطنية السورية ، مع الابقاء على كامل مواده والتحفظ على المادة 116 آنفة الذكر على أن يتم إقرار هذا الدستور من قبل مجلس النواب القادم الذي سيعين موعد انتخابه فيما بعد.
رفع العلم السوري المنصوص عليه في دستور عام 1930 لأول مرة في سماء سوريا عام 1932.
وتحت هذا العلم يقول المخرج السوري هيثم حقي “ قام السوريون – بعد أن فشل الانتداب في تقسيم سوريا وبعد ثلاث محاولات لفرض علم فيه قسم مخصص للعلم الفرنسي- بإجراء مفاوضات عام 1936 واستطاعوا الحصول على المعاهدة التي ستجلي الفرنسيين. لكن الفرنسيين اتخذوا الحرب العالمية حجة لعدم الوفاء بعهودهم فحلوا البرلمان المنتخب المعادي للانتداب عام 1939 واستقال رئيس الجمهورية حينها هاشم الأتاسي وشكلت حكومة مؤقتة باسم حكومة المديرين موالية للانتداب فهب الشعب السوري واستطاع أن يطيح بحكومة المديرين وشكل خالد العظم الوزارة في آذار 1941 . ثم بعد مفاوضات طويلة حصل الاستقلال الأول وانتخب شكري القوتلي رئيساً عام 1943 مع برلمان وطني وكل هذا تحت علم الاستقلال نفسه. وبعد جلاء آخر جندي فرنسي رفع الرئيس شكري القوتلي علم الاستقلال هذا في 17 نيسان عام 1946 معلناً جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض الوطن”.
ومن الجدير بالذكر أيضأ أن دستور عام 1930 تم تعطيله مرتين من قبل السلطات الفرنسية، مرة في عام 1932 حتى عام 1936 ومرة أخرى في عام 1939 وذلك بسبب رفض المجالس النيابية المنتخبة حينها العمل بمضمون المادة 116، إلى أن تم إزالتها نهائيا من الدستور عام 1943.
ومن الحوادث الشهيرة المرتبطة بالعلم حادثة البرلمان الشهيرة في 29 أيار 1945، عندما طلب الجنرال الفرنسي أوليفار روجيه من رئيس مجلس النواب سعدالله الجابري أن تقوم حامية البرلمان بأداء التحية للعلم الفرنسي لدى إنزاله عن دار الأركان الفرنسية المقابلة لمبنى البرلمان آنئذ، فرفض الجابري أن تؤدى التحية لأي علم غير العلم السوري. فماكان من القوات الفرنسية إلا أن طوقت البرلمان وبدأت بدكه بهمجية ثم اقتحمته، واستبسلت حاميته في الدفاع عن رمز سيادة وكرامة السوريين في معركة غير متكافئة استشهد فيها 28 منهم ونكل بجثثهم وذلك من أصل كامل الحامية البالغ تعدادها 30 عنصرا من الدرك والشرطة.
وبعد أقل من عام على هذه الأحداث الدامية رفع العلم “الأخضر” ذي النجوم الثلاث كعلم لسوريا في يوم جلاء آخر جندي فرنسي عن أراضيها، واستمر رفعه في السماء السورية حتى عام 1958، حين تم استبداله بعلم الجمهورية العربية المتحدة.
من خلال السرد التاريخي السابق وبعض المعطيات الأخرى ذات الصلة تتضح النقاط التالية:
علم الانتداب الفرنسي هو علم بلون أزرق وفي وسطه دائرة بيضاء (أو هلال) وفي زاويته العليا اليسرى قسم مخصص للعلم الفرنسي، وتم تبديله ثلاث مرات قبل علم الاستقلال الذي فرضه الوطنيون السوريون في الدستور.
ألوان علم الاستقلال هي ذاتها ألوان العلم السوري الحالي مع فرق الترتيب، ولا علاقة لها باللون الأزرق الذي فرضه الفرنسي، ويقال أنها (أي الألوان الأربعة) استخدمت لأول مرة في راية الثورة العربية.
النجوم (الكواكب) الثلاث في العلم السوري لم تستخدم فقط في العلم الأخضر، بل تم استخدامها في علم سوريا بعد استلام حزب البعث للسلطة عام 1963 (نفس العلم الحالي مضافاً إليه نجمة) وكانت النجوم بلون أخضر.
في حال كانت النجوم (الكواكب) فعلاً ترمز إلى التقسيم، فإن العلم السوري الحالي (علم الجمهورية العربية المتحدة بنجمتين واحدة لمصر والأخرى لسوريا) هو تكريس للانفصال وليس للوحدة.
إن الحملة الرخيصة والممنهجة على علم الاستقلال السوري “الأخضر” هي تشويه خطير للتاريخ الوطني النضالي السوري وإساءة لاتغتفر بحق رواد الاستقلال والوطنيين السوريين الأحرار الذي انتزعوا استقلال سوريا الموحدة من الغاصب الفرنسي، والتشكيك بالعلم الأخضر هو تخوين لهؤلاء جميعاً وتخوين لأجدادنا وحتى آبائنا الذين أدوا التحية لهذا العلم كل صباح منذ فجر الاستقلال وحتى عام 1958. وبالمقابل فإن استخدام العلم الأخضر من قبل فئات كاملة من الشعب السوري في حراكها اليوم يجب أن يكون مترافقاً مع احترام تاريخ هذا العلم، فلامكان تحته للطائفي والانفصالي والمتعصب والمرتبط بالخارج، وتبنيه يجب أن يكون منسجماً مع المبادئ التي آمن بها وناضل في سبيلها من رفعوه وفي مقدمتها الحرية والكرامة والوحدة الوطنية السورية التي لاتنازل عنها والسيادة غير المنقوصة وقيم التعددية والتسامح والمساواة، القيم ذاتها التي تفرض على السوريين اليوم التوحد حول كامل تراب وطنهم، واختيار رموزهم الوطنية بالتوافق بين جميع أطيافهم في عملية ديمقراطية أسس لها أجدادهم تحت أقسى الظروف وفي مواجهة عتاة المستعمرين قبل مايقارب القرن من الزمن.