العمل العسكري وتسليح المعارضة السورية/ سلامة كيلة
ليس للثورات حدود، فقد كان الرد العسكري على التظاهرات السلمية (التي ظلت كذلك سبعة أشهر) وحشيا منذ البداية، وقد أسست السلطة السورية ردها على التظاهر باستخدام العنف لخشيتها من ملايين تملأ الشوارع وتحتل الساحات كما حدث قبل بدء الثورة السورية بقليل في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا.
البطولة تمثلت في أن الشعب صمد سبعة أشهر، وهو يتلقى الرصاص وكل عنف الأجهزة الأمنية والشبيحة دون أن يحيد عن سلميته.
لكن استمرار العنف، خصوصا بعد إدخال كل الجيش في الصراع بعد أن كان اعتماد السلطة على الأجهزة الأمنية (العديدة) والشبيحة، وبعض وحدات الجيش (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والوحدات الخاصة)، وبعد ازدياد أعداد الشهداء بشكل لافت، فرض أن يميل الشباب الذين يتظاهرون إلى استخدام السلاح، خصوصا بعد بدء انشقاق عسكريين وانضمامهم إلى الثورة.
في البداية، كان استخدام السلاح يهدف إلى حماية التظاهرات من عناصر الأمن والشبيحة فقط، لكن كان استمرار عنف السلطة وتزايد وحشيتها سببين كافيين لانتقال الثورة من طابعها السلمي إلى العمل المسلح.
وهنا كان الشباب -الذين تظاهروا لأشهر- أساس تكوين الكتائب التي تشكلت، وبالتالي فإن الكتائب المسلحة هي في أغلبيتها من الشعب الذي مارس النضال السلمي، ومن الشباب الذين تعرضوا للقتل وهم يناضلون سلميا.
ولا شك في أن العمل المسلح بات هو الأساس في مواجهة السلطة التي مارست وتمارس كل أشكال العنف، الذي يبلغ حد الوحشية، ويمكن أن يوصف بأنه يشكل “جرائم ضد الإنسانية”.
ولقد تحقق ذلك عبر رد فعل الشباب المتظاهرين الذين اندفعوا لحمل السلاح، وبالتالي قلص من أعداد المتظاهرين، لكن الأمر الأسوأ تمثل في أن عنف السلطة أفضى إلى تدمير أحياء كاملة وقرى ومدن، وبالتالي أصبح سكانها “لاجئين” في مدن سورية أخرى.
وهنا انتهت إمكانية التظاهر في تلك المدن والأحياء والقرى من جهة، ومن جهة أخرى بات النشطاء في مناطق لجوء هؤلاء معنيين بالعمل الإغاثي، مما حول جزءا كبيرا من الناشطين عن التظاهر، وأربك كل إمكانية لحراك شعبي غير عسكري.
وهو الأمر الذي فرض أن يصبح الصراع مسلحا بشكل كامل، لكنه أوجد مشكلات كبيرة جديدة، منها مسألة التسليح والتمويل، فليس ممكنا خوض حرب ضد سلطة تمتلك كل أنواع الأسلحة البرية والجوية، وتمتلك أيضا قدرة تدمير هائلة، دون سلاح مقابل ودون تمويل العمل المسلح.
ربما لم يفكر هؤلاء الشباب في مصادر التسليح حين اندفعوا إلى العمل العسكري، حيث كان عنف السلطة أضخم من أن يجعلهم يفكرون في هذه المسألة، فجرى استخدام أسلحة ممتلكة أصلا (حيث إن كثيرا من السوريين يمتلكون أسلحة مختلفة)، ومن ثم بدأ السعي للحصول عليها من الجيش ذاته عبر مهاجمة قطاعاته، أو عبر شرائها من “فاسدين”، أو الحصول عليها من متعاطفين.
لكن لم يكن ذلك يكفي لمواجهة القوة العسكرية للسلطة رغم هذا العمل العسكري المحدود، لأنه ترافق مع الثورة الشعبية، وكان نتاجا لها فرض انسحاب السلطة من مناطق واسعة.
وكان أثر الثورة على عناصر الجيش هو السبب الرئيسي في هذا المجال، حيث أدت الثورة إلى تصاعد الاحتقان لدى عناصر الجيش، الأمر الذي كان يزيد من الانشقاقات، التي بدا بعد مدة أنها سوف تكون انشقاقات كبيرة ربما تهز وضع السلطة، لهذا فرضت هذه بقاء معظم قطاعات الجيش في ثكناتها “محاصرة” (أي دون اتصالات أو إجازات)، وأخذت تستخدم الطيران والصواريخ بعيدة المدى كبديل، وكان هذا يؤدي إلى زيادة القتل والتدمير.
ولقد وصل الوضع إلى أن تعجز السلطة عن الاستمرار بعد أن تضررت القطاعات العسكرية التي تعتمد عليها (القوة الصلبة المشكلة في الغالب من علويين، وهي الفرقة الرابعة التي هي استمرار لسرايا الدفاع التي شكلها رفعت الأسد، والحرس الجمهوري، والمخابرات الجوية، ومعهم الشبيحة الذي تبين أن عددا كبيرا منهم كان قد تدرب من قبل خبراء إيرانيين ومن حزب الله على شاكلة الحرس الثوري الإيراني)،
فقد زجت في الصراع منذ البداية وظلت هي القوة التي يعتمد عليها في كل المواجهات الأساسية، وبعد تسلح الثورة باتت تتلقى ضربات قاسمة.
لهذا تشكل ميزان قوى مختل لمصلحة الثورة منذ نهاية سنة 2012، لكن الفوضى وضعف الخبرة في العمل العسكري (فقد أرسل كل الضباط المنشقين من الجيش إلى تركيا والأردن ووضعوا في معسكرات مغلقة أيضا) منعا وضع خطة عسكرية لإسقاط السلطة، فتركز العمل العسكري على “تحرير المدن” والمناطق -التي أصبحت عرضة لقصف عنيف من قبل طيران وصواريخ السلطة- كان يؤدي إلى دمارها في الغالب، ولم يجرِ استغلال انهيار قوى السلطة من أجل الإجهاز على ما بقي منها وإسقاط النظام لتأسيس سلطة بديلة.
بالتالي، فقد ظل ميزان القوى مختلا لأشهر دون أن يجري استغلال ذلك من أجل انتصار الثورة.
لكن هذه الأشهر كانت كافية لكي تحشد السلطة قوى جديدة استقدمتها من إيران وحزب الله والعراق (وهي قوى طائفية مرتبطة بإيران)، وبدفعات جديدة من الأسلحة المتطورة من روسيا، لتبدأ هجوما مضادا من أجل إعادة السيطرة على المناطق التي تراجعت عنها من قبل (القصير وتلكلخ وحمص والغوطة الشرقية في دمشق وأحياء دمشق ودير الزور وحلب).
الآن، باتت المعركة هي مع قوى حزب الله وإيران وبقايا القوة الصلبة، وبأسلحة روسية حديثة، حيث تلجأ السلطة للقصف العنيف بكل الأسلحة الممكنة، بما في ذلك الأسلحة الكيميائية، وهدفها كما يبدو حسم الصراع بكل العنف الممكن.
في المقابل، لم يتحسن تسليح الكتائب المسلحة (ومن امتلك أسلحة جيدة مثل “دولة العراق والشام” وجبهة النصرة لا يخوض الحرب ضد السلطة بل يعمل على فرض سلطته على الشعب في المناطق المحررة، ويستثير الصراعات التي تضعف الثورة، وبالتالي فهي ثورة مضادة)، فمعظم السلاح الذي استخدمته حصلت عليه، كما في الأصل، من الجيش وتجار السلاح، لكنه لم يكن كافيا بالتأكيد.
وقد عملت بعض الدول مثل السعودية وقطر، وكذلك جماعة الإخوان المسلمين السورية، وبعض “تجار الثورات” على شراء بعض الكتائب، وبالتالي أرسلت لها بعض الأسلحة.
لكن تقدير كثير من الكتائب المسلحة كان أن ما يرسل هو فقط من أجل استمرار الصراع وليس من أجل حسمه، بمعنى أن المرسل لا يرسل من السلاح إلا ما يكفي لإطالة أمد الصراع، ولهذا ظل اعتماد الكتائب المسلحة على السلاح الذي يجري اغتنامه من الجيش.
والآن، بعد أن أصبح “التدخل الخارجي” حقيقة من خلال دور إيران وحزب الله، وبعد إعادة تسليح السلطة من قبل روسيا، ومن ثم مع بدء هجوم السلطة من أجل تغيير ميزان القوى وهزيمة الثورة، وتحقيق انتصارات في بعض المناطق، أصبحت مسألة تسليح الكتائب المسلحة مطروحة بحدة: هل يمكن قبول ذلك أم لا؟
السعودية استعدت منذ زمن، وكذلك قطر، فرنسا ضغطت على الاتحاد الأوروبي لرفع قرار منع تسليح الثوار فرفض، ثم عادت ورفضت، ثم وعدت وتراجعت، كذلك فعلت بريطانيا.
أميركا -بعد أن تحققت السيطرة على مدينة القصير بعد التوافق الذي حققته مع روسيا لتحقيق حل سياسي روسي في سوريا- قررت أن تسلح المعارضة، ثم تراجعت.
قيل من قِبل قيادات في الجيش الحر أن سلاحا “متطورا” قد وصل، لكنه سلاح روسي، لكن أيضا لم يصل، بمعنى أنه يجب أن يكون واضحا أن موقف القوى الإمبريالية القديمة من تسليح الثورة سلبي، وقد دعمت إرسال بعض السلاح فقط لكي يستمر الصراع على أمل الوصول إلى تدمير أوسع في سوريا، فهل سيتغير الأمر الآن؟ لا أظن ذلك.
بالتأكيد، الثورة بحاجة إلى سلاح مضاد للدبابات ومضاد للطائرات خصوصا، وأيضا أسلحة خفيفة وذخيرة، لكن يجب ألا نرهق أنفسنا في البحث في هل التسليح “الغربي” صحيح أو غير صحيح، لأن الرؤية الإمبريالية بكل أطيافها تعتقد أن الحل السياسي هو الضروري لما يجري في سوريا، وكلها سلمت الأمر لروسيا لكي تفرض هيمنتها الإمبريالية عبر الحل الذي اقترحته.
هذا الأمر يفرض على الثوار البحث عن طرق أخرى للحصول على السلاح، وأساسا عليهم أن يؤسسوا قوة مسلحة حقيقية قادرة على خوض الصراع من أجل النصر.
وهذا الأمر لم يعد سهلا نتيجة الصعوبات التي باتت تحيط بالثورة، ومنها وجود داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) وجبهة النصرة اللتين تعملان على تصفية الثورة وفرض سلطة أصولية قروسطية مضادة لكل المجتمع، وأيضا تفكك الكتائب المسلحة وأسلمة بعضها، وميله لفرض “دولة إسلامية”، وكل الفوضى التي تراكمت خلال عمر العمل المسلح، والتي سمحت بحدوث اختراقات كبيرة من قبل السلطة.
الثورة في فوضى، والعمل المسلح في فوضى أعلى، وإذا كانت السلطة ستبقى عاجزة عن الحسم فإن انتصار الثورة لا يبدو واضحا نتيجة ما راكمت من مشكلات وفوضى، وما حدث من اختراقات وتأثيرات لقوى إقليمية ودولية.
الجزيرة نت