المبدع السوري… غيّر العالم
محمد عارف
هذه قصة تفوق بالخيال النكات المشهورة عن سكان مدينة حمص السورية، وتحطّم القلب كأوضاعهم الحالية. بطل القصة مبدع من أصل حمصي غيّر العالم، وهذه ليست نكتة على “الحماصنة ” كما يسميهم السوريون. إنه ستيف جوبز، رئيس شركة “أبل” الذي توفي الأسبوع الماضي، وبكى لفقده العالم كله؛ من بكين، حيث تقاطرت على حوانيت “أبل” صفوف المعزين حاملين الزهور والشموع، ولافتات تقول “أثريتَ حياتنا، وغيّرت العالم… نحن نحبك”، وحتى “وادي السليكون” في كاليفورنيا، عاصمة صناعة الكومبيوتر العالمية التي ارتدت شارات الحداد، مروراً بالعواصم حول الكرة الأرضية، بما في ذلك طهران، وهذه أيضاً ليست نكتة على “الحماصنة”. فالنقاش اندلع بين مواقع التواصل الاجتماعي الإيرانية حول ما إذا كان يحق لجوبز دخول الجنة. ومعظم الآراء كانت بالإيجاب، حتى الموقع الموالي للنظام “تنباك” استشهد بقول خامنيئي: “الفلاح الروحي يأتي بعمل الخير، وليس بالصلاة، والله يبارك من يساعد الآخرين”.
والخير الذي صنعه جوبز يتحدى الخيال. آلاته المبتكرة “آي بود” و”آي فون” و”آي باد”، حققت حلم عصر المعلومات والاتصالات في جوال يقوم بوظائف الهاتف، والكومبيوتر، والراديو، والتلفزيون، والإنترنت، والآلة الكاتبة، والفوتوغرافية، وبوصلة فضائية لتحديد المواقع على الكرة الأرضية، وتفعل كل ذلك بلمسة أنامل على الشاشة، وتتصفح عليها صحف صادرة حول العالم، وبمختلف اللغات، وتقرأ فيها الكتاب الذي تختاره من مئات الكتب الإلكترونية المحفوظة داخله، أو من مكتبات إلكترونية عبر العالم، “وهي أكثر من ذلك قليلاً”، كما اعتاد جوبز القول؛ إنها آلة إنتاج وتحرير المقالات والصحف والكتب، ونشرها عبر الإنترنت، ورسم لوحات ملونة، وتأليف مقطوعات موسيقية وعزفها، وصنع أشرطة فيديو بالكامل، من التصوير والإخراج حتى المونتاج والتوزيع.
ويثير الدهشة تعامله البسيط مع أعقد جهاز أبدعه العقل البشري، والذي يقول عنه: “الكومبيوتر بالنسبة لي أبدع آلة أوجدناها، إنها تعادل الدراجة الهوائية لعقولنا”. وهل غير مبدعٍ سوري يختار “أبل”، وتعني “تفاحة”، اسماً لشركة صناعة الكومبيوتر، وكانت الأسماء أرقام أو حروف ترمز للصناعة مثل “آي بي إم”، أو “مايكروسوفت”؟ و”الجمال هو الجانب الثوري لمنتجات “أبل” الآسرة بالمنحنيات الأنثوية لسطوحها، والتي يعتبر النقاد إطلاق اسم مكائن عليها كالقول عن تماثيل مايكل أنجلو منحوتات صخرية. وجمال ثورة “أبل”، حسب الفيلسوف البريطاني جوليان باغيني، أنها “غيرت طريقة حياتنا، وكيفية تعاملنا مع التكنولوجيا، وطرق سماعنا للموسيقى، واتصالاتنا، وتفكيرنا بالفن، والتصميم، والاختراع، والكثير الكثير من ذلك، وأهم شيء أنها غيرت طريقة تفكير منتقدي وأنصار الرأسمالية على حد سواء”.
ويناهض جوبز نزعة التقشف الرأسمالية وقت الأزمات، “فالعلاج ليس عن طريق تقليص النفقات، بل الإبداع هو الطريق الذي يأخذنا خارج المأزق الراهن”. وقد أبدع بالخروج من مأزق تصويت مجلس إدارة “أبل” على عزله، وكان قد اختار له مديراً تنفيذياً كي يتفرغ هو للإبداع! وسيقول آنذاك: “أنا الشخص الوحيد الذي خسر ربع مليار دولار في عام واحد… هذا يبني الشخصية تماماً”. وانطلق في مسيرته المبدعة لتأسيس شركة “بكسار” التي أحدثت الثورة الحالية في صناعة الأفلام السينمائية بواسطة الكومبيوتر، وعاد لرئاسة “أبل” عندما اشتراها.
“إذا عشتَ كل يوم كأنه يومك الأخير فستبلغه بالتأكيد يوماً”. تلك هي حكمة حياته التي بدأها جنيناً معروضاً للتبني وهو ما يزال في رحم أمه. والمفارقة أن تدعوه “ستانفورد”، وهي من أرقى الجامعات الأميركية، لإلقاء كلمة حفل التخرج عام 2005، وهو الذي لم يتخرج من جامعة، وأن يكون عنوان الكلمة “عليك أن تجد ما تحب”، وقد كان الشرط الوحيد لأمه الطالبة الجامعية الفقيرة التي لم تعقد زواجها من أبيه، أن تؤمن له الأسرة المتبنية الدراسة الجامعية. وبعد 17 عاماً اكتشف أن أسرة العامل التي تبنته وضعت تحويشة العمر على دراسته الجامعية، فانسحب من الجامعة وشغل نفسه بدرس فن الخط اليدوي، الذي استخدمه بعد عشر سنوات في تصميم خطوط حروف كومبيوتر “ماكنتوش” واستنسخته عنه “ويندوز”. هل ورث حب الخط عن الجينات العربية لأبيه؟.. سؤال يثير الآن نقاشات ساخنة في الإنترنت، رغم أنه توفي ولم يتصل بأبيه الحقيقي عبد الفتاح الجندلي، أو يذكر اسمه ولو مرة واحدة.
والتناقض كبير بين رسائل إنترنت تعتبر تصرف الأب نموذجاً لسلوك “العربي المسلم الذي لا يأبه للأبوة”، ورسائل تستهجن سلوكه “المخالف لتقاليد العرب الذين يقدسون الأبوة”! ويصعب في أمور عائلية كهذه إصدار أحكام، إلاّ أن تغيير الأب اسمه إلى جون، وتحوله من العمل أستاذاً جامعياً في علم السياسة إلى إدارة كازينو قمار في ريو بولاية نيفادا، قد يشير إلى مأزق جيل قديم من المهاجرين العرب أرادوا تدمير جميع علاقاتهم بأصولهم. وكيف يمكن تجزئة الروح الكلية للإنسان، أو اجتثاث أجزاء منها دون إتلاف كينونته الإنسانية؟
وتبقى النكتة عن الحماصنة والكومبيوتر، وكنتُ رويتها خلال حديثي في مؤتمر “الجمعية السورية للمعلوماتية” التي عقدت في قاعة الأسد بدمشق ربيع عام 1997. كان موضوع الحديث تجربة عملي في أول صحيفة عربية يتم إنتاجها الكامل بالكومبيوتر، وهي “الحياة” اللندنية التي استخدم في إنتاجها كومبيوتر وبرامج “أبل” أشرف على تعريبها الدكتور المهندس علي الأعسم، مدير شركة “ديوان” آنذاك. وفكرت أن أخفف المحاضرة التقنية بنكتة عن جهاز كومبيوتر لاختبار الصدق تربطه فتاة حسناء بأسلاك إلى رأس وصدر الشخص المستجوَب، وتسأله فيم يفكر؟… وكما هو متوقع، حسب النكتة، كذب الجميع عندما قالوا في حضرة الجمال الشامي المدوّخ إنهم يفكرون بالكومبيوتر ومستقبل سوريا العظيم. وما أن قال الحمصي، عندما جاء دوره، “أنا أفكر” حتى قاطعه الكومبيوتر “تكذب”! ضجّ الحضور بالضحك، واعتذرتُ بأني أكذب إذا ادّعيت التفكير بغير البهجة بزيارة سوريا لأول مرة في حياتي. بعد انتهاء الجلسة قال لي الدكتور بشار الأسد، رئيس “الجمعية السورية للمعلوماتية” آنذاك، أن لا تكون الزيارة الأخيرة. وقد كانت الأخيرة للأسف. ولا أجد في هذه الأيام الصعبة غير كلمات الحمصي ستيف جوبز وهو يواجه الموت بسرطان البنكرياس: “يؤسفني أن أكون حزيناً هكذا، إلا أنه صحيح تماماً. وقتكم محدد، لذا لا تضيعوه في عيش حياة آخرين. لا تقعوا في فخ عقائد جامدة، أعني العيش حسب نتائج تفكير ناس آخرين. لا تدعوا ضوضاء آراء غيركم تكتم صوتكم الداخلي. وأهم شيء؛ امتلكوا الشجاعة لتتبعوا قلبكم وحدسكم. إنهما بشكل ما يعرفان ما ترغبون به حقاً. كل شيء آخر أمر ثانوي”.
الاتحاد