المصالح وجنسيّة الأوطان
حازم صاغية
نقلت، في الأسبوع الماضي، محطّة سي. إن. إن التلفزيونيّة الأميركيّة خبراً لم يحظ بما يستحقّه من اهتمام وعناية. يقول الخبر إنّ دول سانت كيتس ودومينيكا وأنتيغوا وبربودا والنمسا وسنغافورة مستعدّة أن تمنح جنسيّتها الوطنيّة لمن يستثمر فيها أو ينقل إليها كميّة معيّنة من الأموال. أمّا هونغ كونغ، وهي ليست دولة، فتستطيع منح الإقامة لمن يستوفي تلك الشروط.
وقد أذاعت تلك الدول قرارها هذا بالطريقة المألوفة في الإعلان التجاريّ الذي يؤكّد على المزايا والفوائد التي يجنيها المستهلك من شرائه سلعة ما ويحاول إغراءه بذلك. فقالت دولة دومينيكا، مثلاً، إنّ جنسيّتها التي تُقدّم لمن يحمل 100 ألف دولار أميركيّ، “لها كامل مميّزات جواز السفر الذي لا يحتاج إلى تأشيرة (فيزا) عند زيارة أكثر من 130 دولة”.
وكان يمكن تجاهل هذا الخبر لو أنّه اقتصر على دول مجهريّة. إلاّ أنّ سنغافورة ليست كذلك، ولا النمسا التي أبدت الاستعداد لتقديم جنسيّتها لمن يستثمرون رساميلهم فيها، وبالطبع ليست أستراليا كذلك حيث “يمكن الحصول على الإقامة الدائمة في البلاد كمستثمر بعد إنفاق 7،4 مليون دولار، ومن بعدها يُسمح لك بالتقدّم بطلب الحصول على الجنسيّة”.
خبر كهذا كفيل بتصديع الطريقة القديمة في الحديث عن الأوطان والأمم التي “تُفتدى بالدم”، والتي يميّزها عن سواها جوهر ثابت ونهائيّ لا يقوى الزمن على تذليله… وهذا كي لا نشير إلى المشاريع القوميّة التي كانت تُبنى على الفرادة المزعومة لعِرق من الأعراق.
فهنا نجدنا أمام تحوّل ضخم يستأنف ما كانت قد فعلته الولايات المتّحدة الأميركيّة مبكراً حين اشترت مساحات هائلة من الأرض من جارتها المكسيكيّة. ومفاد هذا التحوّل أنّ ما من حيّز أو مجال، بما في ذلك جنسيّة الأوطان، يستطيع، بعد اليوم، أن يعزل نفسه عن عمليّات البيع والشراء، أي عن المصالح.
فها هي اسكتلندا مثلاً، تستعدّ لإجراء استفتاء حول مستقبل علاقتها بمملكة بريطانيا المتّحدة، وما إذا كانت ستبقى فيها أم تنفصل عنها. لكنّ الرياضة الوطنيّة الاسكتلنديّة اليوم هي تحديداً إجراء الحسابات والمقارنات: هل الخسارة التي تترتّب على الوحدة أكثر من الربح أم أقلّ؟ وعلى ضوء الجواب الذي يتوصّل إليه الاسكتلنديّ سيرتّب خياره في الاستفتاء الموعود. وإذا صحّ أنّ هناك في اسكتلندا كتلة قويّة من القوميّين المؤيّدين للانفصال كائنة ما كانت التبريرات والحجج الأخرى، فالصحيح أيضاً أنّ منطق هؤلاء ليس المنطق الغالب ولا الأكثريّ في مقاربة الموضوع.
هذا لا يعني أنّ الاصطباغ الجديد للوطنيّة بالمصالح، وعلى هذا النحو المباشر والشفّاف، صار الوجهة الكاسحة في عالمنا، خصوصاً أنّ هناك دولاً كثيرة في هذا الكون، بما فيها معظم دولنا العربيّة، لم تبلور حتّى الآن وطنيّتها، ولم تتوصّل إلى بناء إجماعات شعبيّة في صددها. غير أنّ ما يعنيه ذلك، في المقابل، أنّ طريقة جديدة في التعامل مع المسألة بدأت تشقّ سبيلها. والطريقة هذه إنّما تؤشّر إلى وجهة مستقبليّة قد تغدو، عاجلاً أو آجلاً، الوجهة الغالبة.
أمّا الفلسفة التي تقيم وراء توجّه كهذا فمفادها أنّ مصالح البشر، أفراداً وجماعاتٍ، تعلو على مبدأ الوطنيّة. فالمواطن قبل الوطن، وازدهار المواطن وبحبوحته أهمّ من الأوطان والأراضي بذاتها.
وربّما شكّلت تجربة الاتّحاد الأوروبيّ، أقلّه بحسب الفهم الأنغلو ساكسونيّ لها، نقلة ملحوظة على هذا الطريق، حيث باتت المصالح المترتّبة على فتح الأسواق للتجارة الحرّة العامل الحاسم في تشكيل الكيانات السياسيّة ورسم خرائطها.
لا بل تردّدت أفكار وخطط كثيرة، في الشرق الأوسط وفي سواه، لتذليل مشكلات إقليميّة مستفحلة من طريق التوكيد على المصالح والمنافع العابرة للقوميّات والجامعة للشعوب المعنيّة.
وهذا، في عمومه، ما يحضّ على مراجعة موقف شعبيّ واسع يخترق ثقافتنا، مفاده أنّ المصالح والتجارة “عيب” فيما الأوطان والأراضي والقضايا “مقدّسة”. وغنيّ عن القول إنّ العيب والمقدّس لا يلتقيان ولا يجتمعان.
فمن دون حقن ثقافتنا بجرعة أعلى من النفعيّة، ومن دون تخليصها من ذاك الميل القديم إلى التقديس، ستبقى القضايا أهمّ من البشر، وسيكون من الصعب تالياً احتلال مواقع متقدّمة في عالمنا المعاصر. والمعادلة هذه تزداد صحّةً في زمن العولمة الراهن، الذي استطاع أن يستنهض فينا عصبيّاتنا السابقة على الأوطان والدول أكثر كثيراً ممّا استنهض النزوع إلى مصالح ما بعد الدول والأوطان.
موقع 24