المفاوضات على سوريا.. بيئتها واشتراطاتها
غازي دحمان
يشير زخم الحراك الدولي على خط الأزمة السورية إلى تطور فارق في المواقف الدولية واقترابه من مرحلة جديدة في مقاربة الأزمة المندلعة منذ حوالي خمسة عشر شهراً، فالواضح أن تعدد المبادرات وتنوع مضامينها والجهات التي تقف وراءها، تشي بولادة بيئة للتفاوض بين الأطراف المعنية.
وهذا الأمر يعني وصول مختلف الأطراف إلى قناعة راسخة بأن الأزمة قد نضجت بما يكفي لإنجاز تسوية، إن لم تحصل من خلالها الأطراف المعنية على كل ما تريد فعلى الأقل تضمن الحد من الخسائر الفادحة التي باتت تنذر بها استمرارية الأزمة وتفاعلاتها السلبية، وخاصة بعد المجازر المتنقلة التي تنفذها أجهزة النظام والتهديد بنقل حالة عدم الاستقرار إلى بقية المنطقة، وهو ما ظهرت نذره في أحداث الشمال اللبناني.
بداية ينبغي التأكيد على حقيقة مهمة كان لها الأثر البالغ في هذا التحول المفاجئ في الاستجابة الدولية لتطورات الحدث السوري، إذ رغم فظاعة ووحشية المجازر التي ارتكبتها أجهزة النظام وميلشياته وما أحدثته من تأثير وصدمة عميقتين في الرأي العام العالمي، بما أعادته من ذكريات أليمة لا تزال الذاكرة العالمية ترزح تحت وطأتها، مثل مجازر البوسنة والهرسك ورواندا، وخاصة ببعدها الطائفي والعنصري، فمن المرجح في رأي الكثير من المراقبين أن لا تكون السبب الوحيد وراء هذا التطور الفارق في المواقف الدولية، والذي تمثل بخطوة أولى في عملية طرد دبلوماسيي النظام وممثليه في الكثير من عواصم القرار والتأثير العالمي، لما لهذه الخطوة من رمزية ومدلولات في منطوق التعامل الدولي، وما تحيل إليه من توجهات في السياسة الدولية وتصريفاتها.
التفسير اللافت لهذه الحالة يأتي من الداخل السوري، وتحديداً من النشطاء والفاعلين والمتابعين، بنفس الوقت، للتحرك الدولي تجاه ثورتهم، حيث جرى تصنيف هذا الموقف الدولي في إطار محاولة هذه القوى الدولية اللحاق بالحالة السورية، المتطورة والفاعلة في الميدان، مما يعني أن هذا التحرك يشكل تقديراً للموقف في أيامه القادمة، وثمة تحولات عدة في بنية الحدث السوري جرى فحصها والبناء عليها للتأكيد على صوابية هذا الرأي وأرجحيته.
التحول الأول، قد كشف عنه تصريح الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بشأن سيطرة المعارضة على قسم كبير من الأراضي السورية، وهو وإن بدا للكثيرين أنه توصيف للحال أكثر من كونه تحليلاً للأوضاع، فإن سيطرة المعارضة، بجناحها المسلح، كانت واضحة في المناطق البعيدة جغرافيا، غير أنها أصبحت علنية في أجزاء كبيرة من العاصمة دمشق.
ويحمل هذا الأمر في طياته مدلولات كبيرة، إذ إنه من المعروف في القانون الدولي أن شرعية سلطة ما تتأتى إما من خلال الطرق الدستورية (الانتخابات) وإما عن طريق قدرتها على فرض سيطرتها على الحيز الجغرافي الذي تحكمه وفرض قدرتها على احتكار القوة والسلاح والقوة الآمرة، وخارجياً قدرتها على ضبط حدودها وعدم التأثير على الأمن الإقليمي، وفي حال عدم قدرتها على ذلك فإنها تفقد شرعيتها وتصبح طرفا في النزاع المحلي.
التحول الثاني تمثل في الإضراب الكبير الذي نفذه تجار دمشق وحلب، والذي عكس تغيراً كبيرا في موازين القوى الداخلي، بما لمجتمع الأعمال من أهمية من وجهة نظر القوى الغربية، ذلك أن انضمام التجار إلى فعاليات الثورة يعكس مؤشراً مهماً عن حصول تغيير في العلاقة بين مكونات النظام وبناه، كما يعني انحياز هذه الفئة للثورة تضمنها لواجهات مدنية جدية ومؤثرة، صحيح أن التجار والصناعيين في سوريا ليسوا من مؤيدي النظام بالمطلق، إلا أن ثمة تفاهما ضمنيا كان قد جرى العمل به منذ بدايات حكم الرئيس الأب، قاعدته الأساسية إعطاء الامتيازات لهذه الفئات من تسهيلات وسياسات حمائية وتقديم الامتيازات الكبيرة لها مقابل مساندتها الاقتصادية والسياسية للنظام.
كما أن هذه الفئة تتشكل منها الطبقتان الوسطى والغنية، وقد شكلت الفئة الأخيرة واجهات للدائرة المقربة من النظام التي غزت السوق وعالم الأعمال من خلالها، واستخدمتها في عملية التبييض الكبرى للأموال المنهوبة من سوريا ولبنان، قبل أن تعود وتتموضع في السوق السورية على هيئة شركات استثمارية.
التحول الثالث مرتبط بالتحولين السابقين ويتمثل في عدم قدرة النظام على القضاء على الثورة، وإدراك العالم أن هذا الأمر باتت وراءه قوى الثورة، وأنه من المستحيل أن يستطيع النظام تحقيق اختراق مهم في هذا المجال، رغم كل المهل التي حظي بها وتأكيدات روسيا وحلفاء النظام الإقليميين، وهو ما كشفت عنه مشاهدات المراقبين الدوليين وتقاريرهم، وخاصة حالة التنظيم والاحتضان الشعبي الكبير للثورة، الأمر الذي دفع بمساعد الأمين العام للأمم المتحدة إلى التأكيد أن الثورة السورية لا يمكن أن تتراجع من دون حل سياسي، وإن كان لم يحدد طبيعة الحل السياسي ومضامينه فمن المعروف أن سقفه انتقال السلطة حسب بنود خطة أنان، أو بلغة ذات حواف سياسية حادة لا يحتملها الواقع الدبلوماسي العالمي، إسقاط النظام.
لا شك أن هذه المعطيات ساهمت في تقوية الموقف الغربي باتجاه اتخاذ خطوات فاعلة لجهة وضع الأزمة السورية على سكة الحل والدفع بضغوط مؤثرة على الجانب الروسي الذي حاول إيهام العالم بأنه ممسك بخيوط الأزمة وإمكانيات حلها.
ومما لا شك فيه أيضا أن القوى الغربية وجدت في هذه التحولات أوراقا إستراتيجية مهمة في مواجهة روسيا التي طالما وضعت الشعب السوري رهينة لتحقيق أهدافها الكثيرة في إطار “الصفقة الكبرى” التي كانت تحلم بإنجازها مع الغرب، من ناحية مكانتها الميدانية في منطقة الشرق الأوسط ومكانتها السياسية ونفوذها في مجلس الأمن، وأيضا من ناحية علاقاتها الثنائية بالولايات المتحدة، والتي يمكن تحقيقها عبر تنازلات غربية في خصوص “الدرع الصاروخية” التي ترى أنها تفقدها قدرة الردع النووية، وتسعى لإبرام معاهدة شراكة إستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي تشمل إلغاء تأشيرات الدخول لمواطنيها، وكذلك منحها تسهيلات إضافية في إطار منظمة التجارة الدولية، أو تخفيف الدعم الأخلاقي والسياسي الغربي للحركة الاحتجاجية في روسيا.
غير أن ذلك لا ينفي حقيقة التحركات المدروسة بعناية وعمق وطبيعة الترتيبات التي أقدمت عليها الدول المهتمة بالأزمة السورية والتي كان لها الأثر البالغ في امتلاك أوراق إستراتيجية تفاوضية في مواجهة الدب الروسي الذي وقف عند حد استهانته بعذابات السوريين ولم يطور أدواته في المواجهة التي جعلها مصيرية، اللهم اتكاؤه على عامل الوقت الذي بدأ يعمل لغير صالحه إنْ على الصعيد الأخلاقي دولياً أو على الصعيد الميداني حيث يزداد ضعف النظام باضطراد أمام المظاهرات السلمية، ويفقد السيطرة على مناطق جديدة كلما ظن أنه استعادها في مناطق أخرى.
في هذا السياق كان لافتاً قيام وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بزيارة ثلاث دول من دول القوقاز، وهي أرمينيا وجورجيا وأذربيجان، التي لا تزال تراها موسكو أنها الفِناء الخلفي لروسيا ونقطة ضعفها، وكذلك البيان الذي أدلت به كلينتون في جورجيا احتجاجا على الموقف الروسي تجاه الوضع في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
الأمر الذي دفع غينادي غانيلوف مساعد وزير الخارجية الروسي إلى القول “لم نقُل قط، أو نفرض شرطا، بأن الأسد يجب أن يبقى بالضرورة في السلطة عند انتهاء العملية السياسية”.
وفي السياق ذاته أيضاً وجد الروس أنفسهم عملياً في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة والعالم العربي. وهي مواجهة ظهرت جلية في قمة بطرسبورغ الأوروبية الروسية التي تأكد خلالها أن مستقبل التعاون بين الطرفين رهن بتعديل مواقف موسكو وخصوصاً في ملفي سوريا وإيران، وكذلك في موقف وزيرة الخارجية الأميركية في أستوكهولم حيث دعت الروس إلى لعب الدور المطلوب لإحداث تغيير في سوريا، وأيضاً في الاجتماع الوزاري الخليجي الذي حذر موسكو على لسان وزير الخارجية السعودي من أن تمسكها بدعم الأسد سيفقدها قاعدة التعاطف التي حققتها سابقاً في العالم العربي، ويحرمها من بناء مصالح جيدة لها في المنطقة مستقبلا.
في ضوء ما سبق فإن من المتوقع قيام الإستراتيجية التفاوضية الغربية والعربية على مبدأ حصر الطرف الروسي ضمن ما تتيحه إمكانياته وقدراته على تحقيق مكاسب معينة في سوريا نفسها وليس في أي ملف تفاوضي مع الغرب أو دول الخليج العربية، كأن يتم الاعتراف ببعض المصالح الروسية في سوريا مقابل قيامها بتفكيك النظام أو على الأقل أجزاء منه وتفكيك صواعق التفجير بداخله لضمان تقليل حجم الخسائر الذي يحدثه سقوط النظام، نظراً لما تملكه روسيا من تأثير وما لديها من قنوات اتصال مع بعض القوى داخل النظام.
واستتباعا لذلك يمكن قراءة التشدد الروسي الأخير بأنه استباق للمفاوضات الحقيقية، وربما يدلل تشددهم على الضعف والافتقار إلى الأوراق الإستراتيجية أكثر مما يعني القوة، خاصة في ظل ضعف خيارات روسيا في مواجهة الضغط الدولي عبر التلميح باللجوء إلى خيارات بديلة ومن خارج مجلس الأمن، وفي ظل إمكانية انزلاق سوريا نفسها إلى حرب أهلية تغرق روسيا نفسها في أتونها وتتحول إلى مأزق شبيه بمأزقها الأفغاني، عندها تكون روسيا لا طالت عنب الشام ولا بلح ليبيا.
الجزيرة نت