الملحمة السورية الكبرى
تبحث عن معنى الملحمة في اللغة العربية فتجد عبارات متعددة تتمحور في النهاية حول ما يلي: «الملحمة حكايةٌ بطولية تخبر عن حركة جماعات أو حركة الشعوب، وغالباً ما تقصّ أحداثاً وقعت في بداية تاريخ شعب من الشعوب. وهي نموذجٌ إنساني يُحتذى به، يفعل بحياته وسلوكه ما يمكن أن نطمح جميعاً إلى تحقيقه». وتلك بكلمات هي قصة الشعب السوري في هذه الأيام. فهذا الشعب يكتب اليوم بدايةً حقيقية أخرى لتاريخه العظيم، يقدّم من خلالها نموذجاً إنسانياً يُحتذى سيتحدث عنه التاريخ طويلاً. وفي ملحمة الشعب السوري الراقية، يقدم السوريون بحياتهم وسلوكهم وممارساتهم ومواقفهم نمطاً من الفعل الإنساني السامي يطمح لتحقيقه كل شعبٍ يتوق للحرية والكرامة، وكل أمة تريد أن تبدأ فصلاً جديداً من فصول وجودها على هذه الأرض. مرةً أخرى نؤكد. هذا ليس مقام الكتابة الأدبية، فكل كلامٍ منمقٍ سيكون تافهاً وقاصراً عن التعبير. وإنما هي محاولةٌ متواضعة لنستقرئ بإجلال ظاهرةً اجتماعية إنسانية فريدةً أصبحت لها مفرداتها ونحويتها ولغتها الخاصة. ظاهرةً نُذكّر من جديد بالحاجة الماسة لدراستها من جانب علماء الاجتماع في كل المجالات، لأنها تتجاوز الفعل السياسي المباشر الذي يركّز عليه الكثيرون، وتقدّم أمثلةً وشواهد على ولادةٍ جديدةٍ لواقعٍ إنسانيٍ جديد.
واقعٍ لا تتنافر فيه بالضرورة مقوّمات الأصالة مع مقوّمات المعاصرة، ولا يشتبك فيه لزاماً التاريخ بالحاضر، ولا تتناقض فيه وجوباً متطلبات الدنيا مع متطلبات الآخرة، ولا تتضارب فيه عوامل الهوية الذاتية مع مقتضيات العلاقة مع الآخر.
تحاول الملحمة السورية اليوم إذن أن تلغي إلى الأبد ثقافةً حدّيةً تنظر إلى العالم وتفهم الحياة فقط من خلال الثنائيات المتناقضة.
ثقافة لا تهضم إمكانية أن يكون شعبٌ أصيلاً ومعاصراً في الوقت نفسه.
ثقافة لا تتصور إمكانية أن يعيش شعبٌ حاضرهُ وزمانه بكل الحيوية المطلوبة، وأن يكون في الوقت نفسه ممتلئاً بعبق التاريخ.
ثقافة لا تفهم أنه يمكن لشعبٍ أن يحيا في هذه الدنيا حياةً طيبةً، ملؤها الخير والحق والعدل والحرية والجمال، ثم تكون تلك الحياة بحدّ ذاتها طريقاً إلى نعيم الآخرة الموعود للصالحين المصلحين من بني البشر.
ثقافة لا تدرك أنه يمكن لشعبٍ أن يحافظ على كل خصائص ومقومات هويته الذاتية، وأن ينفتح في الوقت نفسه على الآخر في هذا العالم أياً كان، ويتفاعل معه أخذاً وعطاءً، بكل الطلاقة وبكل الحيوية، دون أن يكون هذا بالضرورة سبيلاً لذوبان الهوية وضياع الخصوصيات.
ثم تظهر المفارقة المفجعة حين لا يُترك مجالٌ للسوريين لخلق هذا الواقع وكتابة قواعده إلا بالدم والتضحيات.
ويأبى التاريخ إلا أن يشارك اليوم في كتابة الملحمة السورية ممثلون لكل شريحة من شرائح الشعب السوري الكريم. فتحتارُ حين تفكر فيمن كتبَ السطر الأول فيها. أتكون صبيةً اسمها طلّ الملوحي سجّلت اسمها كأصغر سجينة سياسية في العالم، أم يكون شيخاً جليلاً كهيثم المالح ظلّ إلى ما قبل أشهر أكبر سجين سياسي في نفس هذا العالم، وهو اليوم ملاحقٌ دون ذرةٍ من حياء وخجل من قبل جلاوزةٍ لا يعرفون للحضارة معنىً ولا قيمة.
ترتسم الملحمة السورية الكبرى اليوم بألف مشهد وألف موقف وألف كلمة وألف شعار.
يبهرك بدايةً حضور المرأة السورية في واجهة الحدث. تحتارُ فيما تقول حين تفكر بنساءٍ يكتبن صفحات في سفر الملحمة مثل سهير الأتاسي ومنتهى الأطرش ورزان زيتونة وغيرهن ممن يضعن أرواحهن على أكفّهنّ مع كل كلمة حقٍ تصدر للعالم من أفواههن.
تحتارُ في تلك المسنّة التي راحت تنادي في بانياس: «أنا من بانياس.. حرةٌ بنت حرّة»، وأخرى تمشي تحمل الدواء على ظهرها لجرحى التظاهرات وهي تجرّ أقدامها جراً.
تحتارُ في طفلةٍ صغيرة، لا يضرّها أن اسمها لم يُعرف، وهي تخاطب الجماهير في ساحة الساعة في حمص ارتجالاً وبعربيةٍ فصحى يخجل من إتقانها ملايين العرب، تستصرخ في الناس النخوة وتنادي بمعاني الكرامة وتؤكد على قيمة الحرية.
تحتارُ في نساءٍ يخرجن في مظاهرةٍ صامتة في قلب العاصمة وهنّ يعرفن مصيرهنّ المحتوم، وفي أخريات يخرجن في قطنا جنباً إلى جنب مع الرجال يهتفن تمجيداً لله ولسوريا وللحرية.. وبس.
يبهرك منظر شبابٍ يُعرّون صدورهم ليفترشوا الأرض أمام الدبابات حمايةً لأهلهم ومدنهم وقراهم. ولا تملك إلا أن تتساءل: أي درجةٍ من الفداء والتضحية يمكن أن يصل إليها شابٌ في مقتبل العمر ليتمكّن من ممارسة هذا الفعل البشري العجيب؟!
تبهرك لافتاتٌ ضخمة مرفوعة في أكثر من موقع من مواقع التجمعات الكبيرة وقد كُتبت عليها الآية الكريمة {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك}، ويبهرك أكثر أن ترى مصداق الآية مطبقاً عملياً في كل منطقة ومدينة وقرية، رغم كل الألم وكل الدم النازف.
تبهرك الأسماء في لائحة المعتقلين الطويلة وهي تضم المسلم والمسيحي، والسني والعلوي، والكردي والدرزي. أسماء تمثّلُ مناطق وطني الجميل من الشمال للجنوب ومن الشرق إلى الغرب. تفكّر في نفسك: أيُّ قدرٍ أجبر الظالم على أن يُظهر فسيفساء سوريا الرائع حتى وهو يمارس ظلمه وطغيانه؟
تبهرك معانٍ كامنة في الملحمة السورية حين ترى كيف يتعامل معها النظام الدولي. وتضحك ضحكاً كالبكاء مع المفكر العربي عزمي بشارة حين تسأله المذيعة عن (عقوبة أوروبية تقضي بمنع تصدير السلاح لسوريا) فيجيب: «أصلا سوريا لا تستورد سلاحاً من أوروبا»!.
ورغم هذا، تبهرك وطنية السوريين وأصالتهم حين لا تسمع نداءً واحداً يدعو لتدخلٍ أجنبي في البلاد يرفضونه ونرفضه معهم بكل إصرار ووضوح، وبعد شهرين من المعاناة والتضحية.
تحتارُ فيما تقول وفيما تكتب وفيما تتحدث وأنت تحاول أن تختصر الملحمة السورية العظيمة في مقال من صفحتين. ثم تقرأ تعريفاً آخر للملحمة يقول إنها: «قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالباً ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه»، فتشعر أن السوريين ماضون لا بدّ في كتابة قصتهم وصناعة ملحمتهم التاريخية بطريقتهم وأبجديتهم الخاصة، وكأنما هم يعيدون اختراع الأبجدية للبشرية.. مرةً أخرى بعد أن قاموا بذلك منذ آلاف السنين.
*نقلا عن “العرب” القطرية