صفحات العالم

لماذا تحوّل بوتين؟/ هارولد جيمس

 

ان سياسة بوتين تجاه الجمهوريات السوفياتية السابقة والغرب يساء فهمها بشكل كبير. فبدلا من التركيز على الانماط الجيوسياسية الأشمل. يقوم المعلقون بتحويل سياسة الكرملين دراما نفسية يمكن فهمها فقط من خلال البحث المعمق في الروح الروسية.

النتيجة هي تفشي المفاهيم الخاطئة عن دوافع بوتين للتحول ممّا ما بدا وكأنه موقف حداثي وتصالحي وحتى مناصر للغرب الى تعديل تلك السياسة بشكل عدائي.

هناك تفسيران خاطئان للسياسة الخارجية الروسية الحالية. التفسير الاول اقترحه من يطلقون على انفسهم “المتعاطفون مع بوتين” في المانيا وهو ان السياسة الروسية هي نتيجة منطقية لاستراتيجية الغرب القائمة على التطويق. فهم يعتبرون ان توسع حلف الناتو والاتحاد الاوروبي كان استفزازا لا داعي له. وفي واقع الامر ان جورج كينان مخترع استراتيجية الاحتواء الاميركية إبان الحرب الباردة عارض توسيع الناتو في التسعينات لهذه الاسباب بالتحديد.

هناك حدود واضحة لتلك النظرية. بادىء ذي بدء هي مبنية على الادعاء بأنه في وقت انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وعد الغرب بإنه لن يكون هناك توسع لـ”الناتو”. وحتى ميخائيل غورباتشيوف في الذكرى الخامسة والعشرين لزوال جدار برلين اتهم الغرب بعدم الوفاء بالوعود التي قطعها سنة 1989 وبأنه عوضا عن ذلك “استغل ضعف روسيا” في التسعينات من اجل “احتكار قيادة العالم والهيمنة عليه” بما في ذلك من خلال توسعة “الناتو”.

لكن في واقع الامر فإن الغرب لم يعِدْ على الاطلاق بعدم توسعة “الناتو” ففي ربيع سنة 1990 قدمت الولايات المتحدة الاميركية طرحا قويا بأن المانيا الموحدة لا يمكن ان تكون جزءا من نظامين امنيين مختلفين.

النقطة الاساسية هنا هي أن روسيا في التسعينات لم تبدِ قلقا كبيرا من توسعة الهياكل الاقتصادية والامنية الاوروبية في الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي في وسط وشرق اوروبا او حتى في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق المستقلة حديثا. ولو انها شعرت بالقلق لما استغرق الكرملين عقدين من الزمان تقريبا حتى يرد على ذلك.

التفسير الثاني الذي يحظى بالشعبية في ما يتعلق بتحوّل بوتين هو أنه شخص غير عقلاني وأن السياسة الخارجية الروسية هي فقط امتداد لأوهام رجل يقوم بحركات مثيرة مثل اللحاق بطيور الكركي السيبيرية في مسار الهجرة الخاص بها باستخدام طائرة شراعية بمحرك. ولكن هذا يثير سؤالا واضحا هو كيف ان شخصا كان يبدو في وقت من الاوقات كأكثر حكام روسيا عصرية واجدرهم بالثقة منذ القيصر الكسندر الثاني – رجل وصفه جورج بوش الابن كشخص مستقيم وجدير بالثقة سنة 2011 – يصبح فجأة اكثر جنونا من راسبوتين؟

ان تفسيراً افضل يمكن ايجاده من طريق تتبع التسلسل الزمني للتحول في السياسة الخارجية والذي بدأ مع أزمة جورجيا سنة 2008. عندما ردت جورجيا والتي كانت تغازل “الناتو” للحصول على عضويته عسكريا على الانفصاليين في أوسيتيا الجنوبية وهي مقاطعة عرقية حظيت حكومتها بدعم الكرملين لأكثر من عقد، قامت روسيا بشن غزو شامل من اجل حماية المنطقة. لقد عززت روسيا كذلك من تواجدها في ابخازيا وهو اقليم انفصالي اخر. ان الازمة والتي سبقها اصدار جوازات روسية على نطاق واسع للجورجيين كانت بمثابة نذير لنشر القوات الروسية في شبه جزيرة القرم بحجة حماية المواطنين الروس.

لقد كان هذا التحول واضحا قبل ذلك من الناحية الخطابية.ففي مؤتمر أمن ميونخ سنة 2007 عرض بوتين وجها جديدا وأكد على امكانات الاقتصادات الناشئة – البرازيل والهند والصين وروسيا – في توفير بديل لما اعتبره نظاماً عالمياً احاديّ القطب وقد شعر العديدون بالصدمة من تصريحاته واعتبروا الخطاب دليلاً على انعدام الاستقرار والمنطق لديه.

وفي السنة التي تلتها وقعت الازمة المالية مما اقنع بوتين ان تقويمه كان صحيحا فالأزمة بحسب وجهة نظره هي دليل على ان ايام اميركا كقوة مهيمنة عالمية قد انتهت.

في واقع الامر فإن روسيا قد اذعنت لمنطق الرأسمالية العالمية قبل الأزمة حيث أقرت بالحاجة للتعاون مع الشركات المتعددة الجنسية من اجل تحديث وتنويع اقتصاد قائم على المواد الخام وانتاج الطاقة ولكن بعد الأزمة لم يعد هناك اي شيء يمكن اكتسابه من الاسواق العالمية – على الاقل ليس من حيث القوة – وعوضا عن ذلك كان افضل خيار لروسيا هو التعاون مع بلدان اخرى والتي تبنت نموذجاً مماثلاً من الرأسمالية التي ترتكز على الدولة وخاصة الصين.

لقد ارتكز تفسير بوتين للأزمة على التطورات السياسية في اميركا واوروبا. لقد انتخبت الولايات المتحدة الاميركية رئيسا كان يبدو مصرا على تقليص التزامات اميركا الدولية. وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي كان الرد الاميركي ضعيفا ومشوشا حيث تأرجح ذلك الرد بين الخطاب المؤيد للديموقراطية والدعم للمستبدين المعادين للاسلاميين. ان هذا مكّن بوتين من أن يصور نفسه، وخاصة في سوريا، كنصير يتمتع بالصدقية والبراغماتية الجيوسياسية.

ان ازمة الدين الاوروبية – وعدم قدرة القادة الاوروبيين على التصرف بشكل منسق – اعطى الكرملين دوافع اضافية. ونظرا إلى أن الدين والعجز الاجمالي الاوروبي اقل بكثير مما في الولايات المتحدة او اليابان فإن المنطق يقول ان بالامكان تجنب الاستقطاب والشلل.

وبشكل عام فإن اعتقاد بوتين بأن الازمة المالية تساهم في تفكك الغرب يتوافق مع التفكير الجيوسياسي السوفياتي التقليدي. وكما اظهر ستيفن كوتكين في كتابه الجديد عن السيرة الذاتية لستالين ان السياسة السوفياتية كانت عقلانية الى حد كبير. فالركود العظيم اقنع ستالين ان الاجنحة المختلفة ضمن الرأسمالية سوف تذهب للحرب والعدوان النازي سنة 1938 – 1939 بدا وكأنه يبرر تحليله ولكن توقعات ستالين لم تتحقق بعد هزيمة هتلر وذلك عندما لم تؤدِّ المصالح المتضاربة الى صراع بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

بينما حاول السياسيون وصناع القرار تجنب “الركود العظيم 2” كان بوتين يعمل فعليا على أساس الافتراض بأن ذلك الركود قد حصل فعلا. وبالنسبة للغرب فإن ادارة الوضع المعقد الناتج من الناحية الجيوسياسية سوف ينطوي على تحديات أكبر من اصلاح اقتصاداتها المتضررة.

أستاذ في جامعة برنستون الأميركية “بروجكت سينديكات”

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى