«المناقصة» مفتوحة لسياسة أميركية جديدة في المنطقة/ حسن منيمنة
خلافاً لاطمئنان البعض وخوف البعض الآخر، ليس ما يشير إلى سياسة واضحة متكاملة للولايات المتحدة في الشأن السوري، ولا في سائر ملفات الشرق الأوسط. لقد ترسخت بالفعل بعض المبادئ الأولية، بعدما غربل الواقع خطاب الحملة الانتخابية، لكن إيقاع الحياة السياسية في واشنطن، وهو الجامع بين الصخب والفوضى والعجلة غير المجدية، لم يسمح بعد بالانتقال من الإجمال إلى التفصيل، ما يترك فراغاً يمكن أصحاب الرؤى والمصالح المختلفة الاستفادة منه لدفع القوة العظمى باتجاه يناسبهم.
والموضوع السوري، كغيره، رهن المناقصة المفتوحة، بانتظار عروض تستوفي الشروط التي رست عليها حكومة ترامب.
أما الملامح الرئيسية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط فإنزال الهزيمة البيّنة بالحركات الجهادية، وتطويق إيران واحتواؤها، وإصلاح العلاقة بالشركاء الأصيلين بعد الضرر الذي تسببت به سياسات أوباما، والكلام هنا هو على تركيا ومصر ودول الخليج، إضافة طبعاً إلى إسرائيل، بغية إعادة ترتيب المنظومة الأمنية في شكل متجانس.
وما يتعدى هذه الأهداف الموضعية، فالسياسة الجديدة تنطلق من إعادة الهيبة إلى الولايات المتحدة بصفتها المرجعية الدولية الأولى، ومن تنظيم العلاقة مع القوى العظمى الثانوية، خصوصاً روسيا في الملف السوري، وأخيراً لا آخراً، إبراز الزعامة المنقطعة النظير للرئيس التاريخي الفريد: ترامب. وليس إدراج هذا الاعتبار الأخير تهكماً مجانياً، على رغم غرابته، بل قد يكون المفتاح، لتشكيل السياسة للمرحلة المقبلة.
ففي سورية تحديداً، كان البيت الأبيض يعاني من انشطار في صفوفه بين من يرى وجوب إعادة دور واشنطن إلى مستوى يتناسب مع قدراتها ومصالحها، ومن يفضّل التخلي عن الموضوع والسماح لروسيا بتولي معالجته كما ترتئي، شرط أن تحقق القدر المطلوب من حاجات واشنطن. بل كان الميل في اتجاه تفويض روسيا، كما ظهر من تصريحات وزير الخارجية ريكس تيلرسون مثلاً حول التراجع عن هدف تغيير النظام. ثم كانت شناعة خان شيخون، وجاءت بعض الصور لتثير مشاعر الرئيس وابنته، فأصبح رأس النظام السوري حيواناً لا بد من إزاحته، وكانت الضربة على مطار الشعيرات، ما أدى فعلياً إلى ترجيح كفة دعاة إمساك واشنطن بزمام الأمور. لكنْ إن كان هذا هو الرأي الغالب، فتفاصيل تنفيذه ليست واضحة. وهنا الفرصة المتاحة لعدد من المتنافسين لتقديم ما يحقق أهداف واشنطن بأقل كلفة مباشرة. هي إذاً مناقصة تتنافس للفوز فيها كل القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري، على تفاوت أحجامها وأوزانها.
والولايات المتحدة في عهد أوباما كانت استثمرت في «وحدات حماية الشعب» الكردية، تحت مسمى «قوات سورية الديموقراطية»، من دون رؤية سياسية أميركية واضحة. وفيما نجحت هذه القوات في تمتين التواصل الميداني مع شق المؤسسة العسكرية الأميركية المعني بسورية، فإن إنجازاتها بقيت وحسب محكومة بالدعم الجوي لقوات التحالف، بل طاولها التراجع مع انحسار الغطاء الجوي. فالتعويل عليها لتحرير الرقة ليس مؤكداً، مع أنها، على رغم اجتهادها في التمويه، تبقى صاحبة مشروع عقائدي قومي يضعها في تعارض مع الأوساط الشعبية كما السياسية عند تجاوز مناطق الأكثرية الكردية. وفيما القيادات الميدانية الأميركية تنشط لسد هذه الفجوات، فإن من المبالغة الخلط بين الانسجام الميداني هنا وتحبيذ سياسي في واشنطن للرؤية العقائدية الكردية السورية. فعلى رغم أن التوجه العملي لا يزال داعماً للعلاقة مع هذه الفصائل، فذلك عائد لغياب البدائل الأكثر إقناعاً، وليس وليد خطة طويلة الأمد.
ومن شأن تركيا تحديداً تبديل هذا الواقع إن اعتمدت بعض الليونة في تفهمها للتحفظ الأميركي الميداني عن التخلي عن الاستثمار في العلاقة مع الجانب الكردي. ومن وجهة نظر أنقرة، فهذه الفصائل ليست إلا واجهة لـ «العمال الكردستاني»، والذي يشكل عدواً وجودياً لوحدة التراب التركي. وليست المخاوف التركية وليدة العدم. ثم إنه لا مجال للمقارنة بين العلاقة العميقة والواسعة والضاربة في التاريخ والمؤسسات بين واشنطن وأنقرة، وبين هذا الحليف الميداني العرضي. فعلى أردوغان إقناع ترامب بتغليب العلاقة الأهم. غير أنه من المستبعد أن يهمل ترامب رأي قادته الميدانيين تماماً. ومع غياب القرار من البيت الأبيض، فالعلاقة الميدانية تبقى وتتمدد، ما يشدد على أهمية تقديم تركيا لعرضها بما لا يخرجها من المناقصة. وإذا كانت واشنطن تبحث عن رؤية، فإن موسكو لم تفتقد يوماً التصور المتكامل، والهادف إلى تنفيس الثورة السورية وتعويم النظام. وحنكة موسكو هي في استعدادها لإطلاق المسميات المرغوبة، بغضّ النظر عن توافقها مع الواقع، سعياً الى تحقيق أهدافها. فيوم كان الرأي السائد إسقاط النظام، اجتهدت موسكو لتجويف الفعل من دون التصدي للقول. ويوم أصبح الهم محاربة الإرهاب، تابعت موسكو تفتيتها للثورة تحت الشعار عينه. وبوسع موسكو اليوم الإقرار بالرؤية الواهية التي تحدث عنها ترامب اعتباطياً خلال حملته الانتخابية حول المناطق الآمنة، من خلال اعتماد مصطلحه وإطلاقه على ما شاءت، للمتابعة في السير نحو تبديد الثورة.
هذا لا يعني أن طاقم ترامب يجهل طبيعة المخادعة الروسية، لكن حاجات الأجنحة في هذا الطاقم قد تستوفى من خلال الشكل من دون المضمون. أو على الأقل هذا هو الرجاء الروسي.
أما دول الخليج، وهي التي يقلقها أن يكون الحل في سورية شكلياً، أو أن يأتي لمصلحة النظام، ما يعد بجولات مستقبلية تطاول في كارثيتها عموم المنطقة، فالأولوية بالنسبة إليها قد تكون تمتين العلاقة مع الحكومة الأميركية الجديدة، ما يدفع الملف السوري إلى الخلفية بعض الشيء، على ما ينطوي عليه ذلك من أخطار.
فهل تتمكن «وحدات حماية الشعب» من تحويل العلاقة الميدانية الآنية إلى مكاسب سياسية بعيدة المدى؟ هل تتمكن تركيا من لجم التمدد الكردي في سورية والعودة إلى الصدارة في الرؤية الأميركية للمنطقة؟ أم هل تنجح روسيا في الحصول على التفويض وإطلاق اليد بما يسمح لها بتعويم النظام؟ الاعتبارات من الجانب الأميركي، في هذه المرحلة بالتأكيد وفي المستقبل المنظور، لا تقتصر على المصلحة الموضوعية، بل تشمل ذلك إرضاء الرئيس الأميركي شخصياً. والناجح في المناقصة هو من يستوفي هذا الشرط.
الحياة