المواطنة: ارتجالات في المفهوم.
محمد الجرف
تُشكل المواطنة إحدى الركائز الأربعة لجملة مفاهيم (العقلانية، العلمانية، الديمقراطية، المواطنة) وهي مجموعة مفاهيم متكاملة، تحيل إلى تحكيم العقل في التفكير وفي السلوك، فالعقلانية هي تفكير فلسفي، والعلمانية تفكير اجتماعي، والديمقراطية تفكير سياسي، بينما المواطنة هي عقد اجنماعي سياسي بين الأفراد لتشكيل المجتمع.
يكثر الحديث العام على أن ممارسة مبدأ المواطنة يستوجب توفير حد أدنى من الحقوق الأساسية للمواطن، حتى يصبح للمواطنة معنى. ولكنه مجرد حديث عام، يقول كل شيء ولا يقول شيئاً في الوقت نفسه، إذ لا معنى لأي مقولة إن بقيت مقولة مجردة بدون أي تخصيص.
دخل مفهوم المواطنة إلى الثقافة العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر على يد رفاعة الطهطاوي عندما حدد المواطن بأنه ابن الوطن المتأصل به أو المنتجع إليه الذي توطن به واتخذه وطنه يُنسب إليه.
تُعتبر سورية (مع لبنان والعراق) من أكثر البلدان العربية تعدديةً، وهي وإن خلا تاريخها الحديث من العنف بين مكونات مجتمعها (على عكس جارتيها) إلاّ أن إدارة الوضع على مبدأ شوفيني يتحدث عن خصوصية مزعومة يتمتع بها المجتمع السوري دوناً عن غيره من مجتمعات الأرض، حوّل هذه التعددية من ميزة إلى نقمة انفجرت عند أول اختبار حقيقي، ذلك أنّ السلطات ومعارضاتها تعمدت –وطوال تاريخ سورية الحديث- إلى طمس الفروقات ونفي الاختلافات وإلغاء المصالح الخاصة المتناقضة أحياناً بين الطوائف والاثنيات تحت شعار حماية الوحدة الوطنية، لذا لم يأخذ مفهوم المواطنة، كغيره من المفاهيم المدنية والحقوقية والسياسية، حقه من النقاش وبالتالي من التغلغل في وعي المثقفين السوريين، ناهيك عن المجتمع السوري ككل.
تناسى مثقفونا –بمن فيهم أشدّ معارضي النظام حالياً- بأن الخطر على الوحدة الوطنية لا يتأتى إلا بعد السكوت عن الواقع الموجود، وعبر تأجيل النقاش في المواضيع الأكثر حساسية بحجة الحفاظ على العيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، إن المواطنة هي الوحيدة القادرة على إعادة بناء الوجود الاجتماعي على الأسس التي يشترك فيها الأفراد والجماعات بدون تنازع وبالتالي فان المواطنة، هي الشيء المشترك بين جميع مواطني الدولة الحديثة، فبدون مبدأ المواطنة لا يمكن أن يقوم مجتمع ديموقراطي حديث تسوده التعددية والحريات في إطار وحدته الداخلية.
ما زلنا على ما يبدو في إطار المفاهيم المجردة!
لنعد قليلاً إلى تعريف المواطنة:
حسب دائرة المعارف البريطانية فإن الموطنة هي: “علاقة بين الفرد والدولة، كما يحددها قانون تلك الدولة، بما تتضمنه من حقوق – متبادلة – في تلك الدولة”.
ولكن ماذا لو كان قانون هذه الدولة لا يتضمن حقوقاً متساوية لجميع مواطنيها، كما هو الحال في دساتيرنا العربية، ومنها دستورنا السوري الذي يميز بشكل واضح بين مواطنيه على أسس دينية وإثنية. إذن لا بد من فصل الدين عن الدولة كي لا تندمج الدولة بطوائفها (=العلمانية)، ولا بد من فصل السلطات واستقلال الدولة عن كل سلطة كي لا تندمج الدولة بالسلطة (=الديمقراطية).
لا تتحقق المواطنة إلاّ بتوافر مناخ علماني وديمقراطي، وهذا المناخ لا يكون إلاّ في ظل قوانين مدنية حديثة، وهذه الأخيرة لا تنتج إلا من بنية تحتية واعية.
مرةً أخرى: أين المفر؟
في مُجمل حياتنا وفكرنا ما زلنا قبليين، لم نستطع أن نخرج من طوق القبيلة حتى بعد أكثر من ألف وستمائة عام على محاولة قصي بن كلاب.
ما زالت المرجعيات الأخرى هي التي تتحكم فينا كسوريين: العائلة والعشيرة والطائفة. لم يستطع الحزب الواحد، حزب البعث الموصوف خطأً بأنه علماني، أن يُخرج البلاد لمرجعية جديدة حضارية، مرجعية الدولة، لأن استمراره في حُكم البلاد اعتمد على تعزيز المرجعيات الما قبل- دولة، وذلك عن طريق خلق الحدود بين المواطنين وإعطاء إمتيازات ما لجماعات ضد جماعات.
في حضور هذا الوعي المبستر يُغيّب المفهوم الواقعي للمواطنة حتى في ظل حراك شعبيّ عارم ذلك أنّ المرجعيات ما زالت هي ذاتها من حيث كون المرجعية الاجتماعية والفكرية والأخلاقية والسياسية مازالت مرجعية غير وطنية، مازالت في المرتبة الأولى مرجعية دينية-طائفية ، ترفض عمليا المواطنة وترفض حياد الدولة المستقبلية المأمولة بالنسبة للمعتقدات. إن كنت من دين الأغلبية فلك امتياز على الآخرين، الذين يشار إليهم بأنهم من “الأقليات الدينية”. هذا التعبير الأخير المتداول حالياً لهو أفضل دليل على هذه العقلية والمرجعية الدينية الرجعية، نسبة لمفاهيم وحقوق الناس في العصر الحديث. ..
ولكن، لماذا بعد كل هذه التضحيات؟
لأنه من المستحيل إلغاء الانقسامات الغريزية في المجتمعات المركبة والتعددية (التعبير لكريم بقرادوني)، أقصى ما يمكن هو عقلنتها عبر ضبطها وتهذيبها، وهذا ما لاتقوم به قوى التغيير في سورية لأنها بحاجة للحشد، والحشد يعتمد على التحريض المذهبي، والتحريض يتنافى مع العقل.
يترابط لدينا النظام مع السلطة مع الدولة، وعندما ضعفت الدولة أصبحت الطائفة هي الملجأ الوحيد، وعندما غابت الحماية انتصرت الذات على الوطن، وغدت الحماية الذاتية- الوقائية هي الهدف.
والحل؟
إن اعترافنا بالفوارق فيما بيننا لا يعني رفع هذه الفوارق إلى مستوى القضايا، أي أنه لا يجب أن نحوّل الطائفة بديلاً عن الوطن أو أن تتحول إلى إشكالية وطنية، لا يجب رفع الدين إلى مستوى المواطنة، هذا الكلام يدمر الوطن ويجعل من الدين عامل هدم وتدمير.
في ظل تزايد تعقيد الوضع السوري فلا أحد يستطيع إدعاء امتلاك الحل ولو على المستوى النظري، ولكن لابد من اعتماد المواطنة إذ على أساسها يمكن البدء بالعمل السياسي المفتوح على كل أفراد البلد. يحصل على المواطنة تلقائيا كل من يولد على أرض هذا الوطن وكل من يحمل جنسيته، المواطنة التي تتضمن نفس الحقوق والواجبات لكل المواطنين دون أي تمييز عنصري أو طائفي أو جنسي أو ديني أو مهني أو فكري أو ثقافي أو اجتماعي أو أي تمييز آخر يعطي الأكثر للبعض ويقلل من حقوق الآخرين.
الوطن هو الهوية، هو إرادتنا في العيش المشترك، والوطن السوري هو سورية بحدودها الدولية والجغرافية المتفق عليها في سايكس- بيكو، وبتاريخه وبكل مكوناته وكل خصوصياته النفسية والثقافية.
ولتكريس مفاهيم (الوطن/ /الوطنية// المواطنة) لا يمكن أن تكون سورية جزءاً من آخر، لا يمكن أن يكون ولاء مواطنيها لما هو أكبر منها (عربي أو إسلامي) تلك تبقى قضية إيديولوجية، جوهر الوطن يجب أن يكون بعيداً عنها، الوطنية لاتكون وطنية إلا بقدر انفتاحها، بقدر تخلصها من انعزالها الشوفيني بحجة خصوصيتها، ولكن أيضاً بقدر تشددها في ولائها لذاتها.
خاتمة ألسنية:
لايمكننا بناء المشروع الحضاري إلاّ بالتفاعل مع الآخر، وضمن رغبة الآخر، وإلاّ فإننا سوف نُعيد أشكال الفرملة والكبح على أدوات الفكر عبر تقزيمه تحت يافطة الاستدلال، وتحويل أشكال الأزمنة إلى زمنين فقط: الزمن الآني والزمن الأسطوري. أي تحويل تاريخية الحدث إلى تأريخ سلطوي له – أياً كانت هذه السلطة- تتكرس عندها سلطة النص=الفكر ( حسب نظام مارتيني) عبر إصدار القيم المُسبقة.
دمشق-2012
خاص بصفحات سورية.