النموذج السوري تحت شبح النماذج الفاشلة/ عمر قدور
مع انقضاء السنة الخامسة على اندلاع الثورة، يجوز القول أن السوريين دفعوا ثمن الفشل العام في المنطقة. ذلك لا يعني تجاهل الإخفاقات الداخلية، لكن كان وارداً للمسار السوري اتخاذ منحى مغايراً لو لم تتحسّب القوى الدولية الفاعلة من عواقب الفشل الذي عاينته في دول أخرى. لنفترض جدلاً أن الثورة السورية كانت الأولى في موجة «الربيع العربي»، ولنفترض أنها كانت على موعد للحسم قبل إخفاق النموذج الليبي أو اليمني، عندذاك كان مُبرَّراً بقوة الظن بأن كثيراً من التخوفات التي لازمت مسألة التغيير لن يُطرح كعائق له في سورية.
من سوء حظ السوريين، حتى تثبت الاستفادة من التجارب الأخرى، مجيء ثورتهم متأخرة قليلاً في إطار الموجة التي عصفت بالمنطقة. في البداية، كانت هناك ملفات لها الأولوية عليهم، للقذافي مثلاً حسابات قديمة مع الغرب، قضية لوكربي ليست سوى رأس الجبل فيها، ولمصر الرائدة في إقامة السلام مع إسرائيل والحصول على المساعدات العسكرية الأميركية، حسابات دقيقة ساعدت الثورة والثورة المضادة، أما حساسية الملف اليمني خليجياً فمحتمل جداً أن تكون قد ساهمت في اقتراح حل له، وإن لم يصمد لاحقاً لاتصاله بصراع أعم في المنطقة من ضمنه الصراع على سورية.
والفشل الذي دفع ثمنه السوريون لا يقتصر على عثرات الربيع العربي، وإذا قفز تنظيم «داعش» إلى صدارة التعبير عن الفشل فمن الواجب التذكير بأن التنظيم ابن الفشل الأميركي في العراق أولاً. تغليب رهاب التطرف الإسلامي على مسبباته مرة أخرى لن ينفع في محاربته، وتحميل الصراع في سورية مسؤوليته تنصّل غير أخلاقي من المسؤولية الأميركية تحديداً، والتي تتحملها إدارتا بوش وأوباما، الأولى برعايتها انتقالاً فوضوياً وانتقامياً للسلطة، بما فيه القانون الثأري لاجتثاث البعث، والثانية بخضوعها للابتزاز الإيراني في سبيل انسحاب هادئ من العراق.
راجت طويلاً مقولة عدم رغبة الإدارة الأميركية في تكرار أخطاء العراق، غير أن عموميتها تكاد تبرر تلقائياً سلبية الإدارة إزاء التغيير في سورية، وتنطوي على تجاهل مسؤولية الإدارة على مستويين، أولهما في بروز «داعش» على خلفية الأخطاء العراقية، وثانيهما الخيار «الراديكالي» المتمثل بمنع التغيير ما لم يصبح البديل جاهزاً ومضبوطاً تماماً. سلة الاشتراطات الأميركية على التغيير في سورية، والتي سبقت مجيء «داعش» و «القاعدة» إليها، تحمّل السوريين أخطاء الإدارة في العراق، وتفترض أنهم سيأخذون المنحى ذاته الذي اتخذه العراقيون بناء على أخطاء إدارة بريمر.
وكي تكتمل اللوحة، لا بد من ذكر الدور السلبي لإدارتي بوش وأوباما في الملف اللبناني، بدءاً بدعم ثورة الأرز ومن ثم التخلّي عن تمثيلها السياسي. إذ من المعلوم أن إدارة بوش التي أجرت تعديلات على استراتيجيتها في العراق، سحبت بالتزامن دعمها لفريق 14 آذار في لبنان، الأمر الذي سمح بالهيمنة الإيرانية في البلدين مروراً بنظام بشار. أيضاً، لن يكون أخلاقياً البتة تصحيح ذلك الخطأ بما اعتُبر يوماً إضعاف حزب الله بمشاركته في الحرب على السوريين، والتغاضي عن تلك المشاركة بدعوى إضعاف المتطرفين الشيعة والسنة معاً. بفعل تراكم الأخطاء، باتت سورية واقعة أصلاً بين نموذجين من المحاصصة يفتقران إلى الحد الأدنى من دينامية الدولة، وفي لبنان كما في العراق ثمة سيطرة ميليشيوية تستبيح المؤسسات العامة أو تعطلها. ذلك قبل أن يأتي النموذجان الليبي واليمني لينذرا بمآلات شبيهة بالمثال الصومالي العتيد، وقبل أن يتجه الوضع السوري نفسه ليكون الأسوأ على صعيد الكلفة البشرية، والاقتصادية غير القابلة للتعويض ذاتياً. قد يكون مفيداً أيضاً، التنويه بالنموذج الأفغاني، فمن سخرية القدر أن القوتين اللتين تقودان العملية في سورية الآن تقاسمتا الأخطاء هناك، وإذا كانت الهزيمة الروسية النكراء ثمناً لخطأ التدخل، فلا تزال أميركا تدفع ثمن الانتصار والتحرير.
ربما كان متاحاً حقاً تجنّب تكرار النماذج الفاشلة، فيما لو دُعم التغيير في سورية سريعاً، أي قبل الكلفة البشرية الباهظة والأحقاد الناجمة بسببها، وبالطبع مع إغلاق الحدود السورية أمام «سرطانات» النماذج الأخرى، ومن ذلك التنظيمات الجهادية التي تنشط على أفضل وجه في الفراغات السياسية التلقائية، أو المتعمدة. ما حدث هو العكس تماماً، إذ انصبت المحاولات كافة على إغلاق الحدود كي لا تفيض الحالة السورية خارجاً، مع تشجيع الأطراف والتنظيمات الإقليمية والدولية على القدوم وتصفية حساباتها، أي أن الساحة السورية أصبحت متخمة فعلاً بعواقب الفشل الدولي والإقليمي في أكثر من ملف. ذلك فضلاً عن الحروب الاستباقية، إذ لا تخفي موسكو تخوّفها من عودة مجاهديها الشيشان، وهي أيضاً تخوفات أوروبية تخصّ المقاتلين الغربيين، مثلما لا تخفى تخوفات طهران وأنقرة من كيان كردي سوري على غرار إقليم كردستان العراق.
إذا أخذنا، بحسن نية، ما يُعلن دولياً عن العملية السياسية، فأقل ما يُقال إنها عملية طموحة جداً. هي عملية تتوخى حلفاً ضخماً لمحاربة الإرهاب، ومن ضمنه تحالف سوريين ارتكب قسم منه تجاه الآخر أعمال إبادة. وهي عملية تتوخى إيقاف الصراع الإقليمي عن التأثير، بل إدارة أطراف الصراع من أجل محاربة الإرهاب، وأيضاً من أجل تحييد الملف السوري عنه. وفي شقّها الداخلي تطمح إلى مصالحة تغيب عنها العدالة والمساءلة، بل يغيب السوريون أنفسهم عن تقرير بنودها.
أهم من ذلك، الحديث الذي اتخذ صفة الاستعجال حول الدستور والنظام السياسي في المستقبل، في غياب كلي لنماذج تحوّل ناجحة في المنطقة يمكن الاهتداء بها، على عكس النماذج الفاشلة التي يصعب تجاوزها. المشكلة أن السوريين غير جاهزين الآن للبت في قضايا مصيرية على هذه الدرجة من الحساسية، والأطراف الدولية والإقليمية غير مؤهلة لذلك، بحكم انحيازاتها وبحكم تجاربها السيئة والخاطئة لبعضها داخل بلدانها أو خارجها.
الفجوة الكبيرة أن سقف الاشتراطات الدولية يرتفع فقط عندما يتعلق الأمر بالمستقبل، بينما ينخفض عندما يتعلق بمعاناة السوريين نتيجة القتل والتجويع والتهجير. هذا، فوق أنه مؤشر الى النفاق في ما يخص الحرص على السوريين، ينذر بفجوة مماثلة بين الواقع الحالي والتصورات الدولية للمستقبل.
الحياة