النهضة الحقيقية
محمد الحدّاد
منذ أكثر من عشرين سنة، كتبنا في أطروحة دكتوراه، وفي معرض التعليق على المجادلة المشهورة بين محمد عبده وفرح أنطون، «إن القوى الانتهازية تنجح غالباً في توظيف خطاب الإصلاح الديني وخطاب التحديث معاً لمصالحها الآنية من دون أن تحقق إصلاحاً ولا تحديثاً».
كانت حفــرياتــنا في الفكر العربي المعاصر قد قادتنا إلى الــتنبه كم كان القــرن التاسع عشر، المدعو بعصر النهــضة، مختلفاً اختلافاً هيكلياً وجوهرياً عن القرن العشـرين، قرن الأيديــولوجــيات الكبرى. ففي عصر النهضة كان الصــراع قائماً أساساً بين تيار يدعو إلى تغيير الذات لاســتعادة المكانة في عالم غريب متغيّر، وتيّار يرى أن هذا العالم الغريب سحابة صيف عابرة والمطلوب اتّقاء دنسه بالتمسك بالسنّة القائمة ووصايا السلف.
وقد انقسم التيار الأول إلى قسمين، قسم يدعو إلى الإصلاح الديني تعبيراً عن إرادة تغيير الذات بتثوير المقولات العميقة الثاوية في الوعي الجمعي وتعبئة الطاقات الذاتية الكامنة في الثقافة القومية، وقسم يدعو إلى توسيع دائرة الاقتباس تعبيراً عن إرادة تغيير الذات بالاستــفادة من المــتاح الكــوني الذي ينبغي أن يقوّم وفق فائدته لا وفق مصدره. أما التيار الثاني فقد انقسم بدوره إلى قسمين، قسم يبحث عن الخلاص الفردي بمواجهة الدنس الوافد، بالكرامات والخوارق وتنمية الطرق الصوفية لتكون بديلاً من بنى اجتماعية في صدد الانهيار، وقسم يقاوم الدنس بمواجهة مع الوافد يعلم أنها غير متكافئة، يجعلها تحت راية الجهاد الذي يحقّق العبور إلى عالم الحق والخلود ويترك عالم الدنس والغرور لأهله.
فلما أصبح العالم الحديث مستأنساً لدى العقول العربية بفضل الرحلات والمطبوعات والمؤسسات التعليمية الجديدة، من دون أن يتحوّل مع ذلك إلى عالم مقبول ومرحّب به، ضمر التيار الثاني وظهرت الأيديولوجيات الكبرى في القرن العشرين، وقد تأسست كلها على نمط نضالي واحد على رغم تنوع شعاراتها من قومية ويسارية وإسلامية، وسعت كل أيديولوجيا إلى اعتبار نفسها الوريث الشرعي للتيار الأول، وكتبت تاريخه بما يدعم مشروعيتها وأحقيتها وحدها بالزعامة. وقد انتهى الصراع بين الأيديولوجيات في القرن العشرين إلى إضعاف بعضها بعضاً وبروز مقولة انهيار الأيديولوجيات وقيام أنظمة انتهازية لا تقيّد نفسها بفكر أو مشروع أو رؤية، وقد استفادت هذه الأنظمة من المتغيرات العالمية المتسمة بتراجع الفلسفات الكبرى مقابل تنامي البيروقراطية والتكنوقراطية وتضخم دور المؤسسات الدولية التي تبدو في ظاهرها مجرد هيئات خبراء لتقديم النصح والإعانة.
ومع اندلاع الثورات العربية الراهنة، نعيش اليوم انهيـــــار الأنظمة الانتهازية التي استهلكت كل الشعارات ولم تؤمـــــن قط بشيء منها، رفعت راية المقاومة وهي تفاوض الأعداء سراً أو جهراً، ورفعت راية الوحدة وهي تحكم حكماً ضيقاً، طائفياً أو عشائرياً أو جهوياً، ورفعت رايــــــة الحداثة وهي تشجع السلوك العدمي والفكر الخرافي، ورفعت راية الاستقامة وهي تتاجر بالمخدرات. وعليه، فإن المستقبل سيكون مختلفاً هيكلياً ونوعياً عما عشـــناه في عصر الأيديولوجيات، مثلما كان القرن العشرون مختلفاً عن القرن التاسع عشر، فعلى عكس ما يبدو من ظاهر الأحداث اليوم، لن يكون مستقبل المجتمعات العربية العودة إلى الأيديولوجيات، بل هناك إمكانية حقيقية في أن تدخل هذه المجتمعات مرحلة التعددية الاجتماعية والفكرية والسياسية، وتقطع خطوة أولى في السير نحو الديموقراطية، وستتميز بقابلية أكبر لقبول الاختلاف في تصور طرق الإصلاح والتنمية وفي واقعية أكبر في هذا التصور، وسيتسع هامش حرية التعبير والعمل السياسي والتنظيم والتأثير في الشأن العام.
في المقابل، ستواجه الثورات العربية أخطاراً من نوع آخر، مثل التحكم الناعم في العقول الذي تمارسه التكتلات المالية الدولية المسيطرة على وسائل الإعلام الكبرى والشبكات الاجتماعية والانترنت، ومثل تنامي الخطابات الشعبوية التي تسعى إلى خطب ودّ الجماهير للاستفادة من دعوى تمثيليتها. ومن الضروري، في مواجهة الأخطار الجديدة، العمل على إرساء ثقافة تقوم على الإعلاء من شأن التعددية والاختلاف وتبشّر بالحوار والوفاق بديلاً من الحقيقة المطلقة، وتعمل على إعادة الربط بين مشروع الإصلاح الديني ومشروع التحديث باعتبارهما متلازمين لا متناقضين.
إن نجاح المسارات الديموقراطية العربية رهن النجاح في تطوير هذه الثقافة التنويرية بدل العودة إلى الأيديولوجيات التقليدية التي تصارعت من دون طائل خلال القرن العشرين، وإذا ما رأينا اليوم عودة قوية للخطابات الأيديولوجية، فنرجو أن تكون من صنف «إيماضة الخمود، كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال وهي انطفاء»، وفق عبارة ابن خلدون.
وقد يتــواصــل الصــخب الأيديولوجي سنوات معدودة، لكن مواجهة المصاعب الموضوعية التي سيرتطم بها تسيير مجتمعات متأخرة عن العالم في كل المجالات ستعيد الخطابات إلى الواقعية. هذا هو الاختلاف الهيكلي والنوعي الذي لا مناص من تعميقه لتحقيق النهضة الحقيقية التي ظلت معلّقة منذ أكثر من قرنين.
الحياة