صفحات الرأي

أين تبخّرت النهضة العربية الثانية؟/ إبراهيم العريس

 

 

منذ سنوات عدة يأخذ كثر على المفكر المغربي عبدالله العروي غيابه ليس عن الساحة الإعلامية العربية فقط، بل كذلك عن الساحات الثقافية العربية. يفترضون أن صاحب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» و «مفهوم الحرية» لم يعد لديه ما يقوله، أمام زحمة ما يحدث ويقال في العالم العربي.

العروي صامت بالتأكيد… ولكن ليس دائماً، إذ حين يتعلق الأمر بمن يحاول أن يكتب ما يمس وطنه المغرب، أو حتى السلطات العليا في وطنه، لا يتورع عن التدخل، ولكن في حدود الموضوع المحلي وفي حدود رغبته في «الدفاع عن أمن المغرب واستقراره». ومن الواضح أن أحداً لم يكن يتوقع مثل هذا الموقف من ذلك المفكر، الثمانيني اليوم، الذي كان مع حفنة من مفكرين عرب آخرين، من مؤسسي تلك النهضة الفكرية العربية الثانية التي انطلقت أواسط ستينات القرن العشرين في محاولة حادة وغاضبة ومشاكسة للرد على التدهور الذي وصل إليه الفكر العربي الرسمي على مشارف وفي أعقاب تلك الهزيمة العربية الكبرى التي كانتها «حرب الأيام الستة» في حزيران (يونيو) 1967 حين انتصرت إسرائيل على جيوش ثلاث أو أربع دول عربية، فإذا بالهزيمة تعم العالم العربي من مشارقه إلى مغاربه.

بعد شهور قليلة، سيكون نصف قرن قد مرّ على تلك الهزيمة التي كانت فاتحة الكثير من الهزائم الأخرى التي تتابعت خلال العقود الفائتة. ولئن كانت قلة فقط من العرب ستستذكر تلك الكارثة الوجودية معتبرة إياها السقوط الأول لقطع الدومينو العربية، فإن البعض، لا سيما في الأوساط الفكرية، سيتساءل مندهشاً: ولكن أين صار ذلك الردّ الحضاري والفاضح الذي مثلته النهضة العربية الثانية يومذاك، وهي «الثانية» لأنها تلت نهضة أولى قامت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر على أيدي الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وشكيب إرسلان وعشرات غيرهم من مفكرين حاول كل منهم على طريقته أن يجيب عن الأسئلة التي كانت تتحدى المنطقة العربية ووعيها عشية انفصالها عن الحضن العثماني؟

إبان الغرق اليائس في آثار الهزيمة الحزيرانية، قام عشرات المفكرين العرب، في السياق الذي اختطه عبدالله العروي ليفكروا بالهزيمة ويسعوا إلى إجابات أو حتى إلى برامج عمل. يومذاك حتى ولو كانت لغة بعض أبرزهم، من صادق جلال العظم، إلى جورج طرابيشي، ومن أدونيس إلى علي أومليل إلى فهمي جدعان والطيب تيزيني وعزيز العظمة وهشام جعيط ومحمد عابد الجابري وبرهان غليون والطاهر لبيب وسمير أمين وهشام شرابي… وغيرهم، قد بدت يائسة متشائمة، فإنهم عرفوا في مجموعهم كيف يؤشرون إلى الأسباب الحقيقية تاركين للشعوب ونخبها المقبلة مهمة تحويل الأسئلة إلى إجابات.

يقيناً أن ذلك المتن الفكري الذي وصل إلى ذروته مع كتب صادق جلال العظم فاعتبر الناقد الأكبر للهزيمة وأسبابها، بالتالي المحرّض الأكثر فاعلية على التصدي لها وتحويل اليأس إلى حراك في انعطافة سرعان ما تلقتها الفنون وشتى ضروب الإبداع لتحويله معارك راحت تخاض على مستوى الوعي العام، على الأقلّ ذلك المتن شكل يومذاك نوعاً من خشبة خلاص ممكنة.

لكن السؤال اليوم: أين صار ذلك كله؟ أين تبخّر حلم الوعي العربي، أفي التطرف الذي اشتُغل عليه بمكر ليصبح ذا السيادة في حياتنا العربية؟ أم على الشاشات الصغيرة التي حولت المفكرين دمًى تسكتهم مذيعاتها ما إن يسترسلوا في الشرح بالعبارة الشهيرة البائسة «شكراً وصلت الفكرة»؟ أم في المكافآت والجوائز التي تحول المبدع العربي إلى كاتب من أجل لجنة محكّمين لا أكثر؟

اليوم إذ يصمت العروي وجعيط وأومليل، ويتحول البشري وأمثاله إلى مبررين للتطرف، ويرحل الأكثر نقاء من أمثال سعدالله ونوس والطرابيشي والعظم…. ويكتفي بعض المفكرين بمبارزات الديكة يخوضونها على الشاشة الصغيرة، أو يضحون «خبراء استرتيجيين» بسترات ملونة لزوم الشاشة الصغيرة، سنتساءل ببساطة لمناسبة ذكرى الهزيمة المقبلة: أين صارت النهضة العربية الثانية؟

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى