الوحدة
عندما يعجز المرء عن التغيير و يشعر بالعجز يسعى للشكوى. لكن عندما تصل الشكوى إلى حد تململ صاحبها ومن يسمعها, يصبح في موقف سيء فيضطر للتفكير بالتغيير و منه يعود إلى الشكوى في حلقة مفرغة تماما ً. لعل المرض الأكثر شيوعا ً في العالم هو الوحدة حيث يأخذ من هذه الحلقة المفرغة بادئة له في ترميغه للنفس البشرية بالوحل. قد تعبت العقول من تحليل و تعريف الوحدة, و تعبت أوتار الموسيقيين من عزف ألحانها المؤلمة. لكن لنقول أنها ببساطة عجز النفس البشرية عن الانخراط بمناخ اجتماعي تشعر فيه بجدوى وجودها.
إذا ًهي ربما مشكلة وجود؟ تسعى النفس البشرية, كأول ردة فعل غير إرادية على هذا المرض, إلى الاستعانة بشخص مقرب جدا ً و تكون أكثر بعدا ًعن خلق مناخات اجتماعية متنوعة أو ببساطة جديدة, و ذلك بسبب الخوف. و كلما زادت حلقة الوحدة المفرغة ضيقا ً كانت ردة الفعل أقوى و أعنف, فتصبح النفس قريبة من ذاتها إلى حد النفور و تسعى إلى القرب و ربما إلى الحب المبالغ فيه مع الأشخاص المقربين, و في لحظة ما تشعر بعدم جدوى الاقتراب و الشكوى فتفكر بالهرب كحل سريع يقود إلى ما أصبح يُعرف بخطة الشاطئ الأخير التي غالبا ً ما تكون مدمرة أكثر من أمواج البحر العاتية التي تصارعها.
أكثر النفوس البشرية معاناة في هذا المرض هي تلك التي لديها شخصية خلّاقة (بمعنى أنها ذات سعي دؤوب نحو خلق الأشياء و تقديم الجديد أي نحو التغيير), فهي تشعر بالتكبيل و العجز, و اليأس من مرور الأيام دونما تغيير. و لما كانت شخصية خلّاقة فهي في معركة شرسة مع هذا المرض و غير مستسلمة على الإطلاق, بالتالي هي الأكثر عرضة إلى الإخفاقات و الأكثر فعلا ً للحماقات (ردات الفعل العنيفة). على أية حال, إن ردة الفعل في هذه الشخصية هي مبالغ فيها كما و المرض نفسه. تصاب هذه الشخصية بالمرض بسبب الشعور الحقيقي بتراجع جدوى الوجود الناتج عن أن علاقتها القائمة مع الوسط المحيط لم تعد خلّاقة على الاطلاق لا بل أصبحت تشعر بعدم قدرتها على جعلها على هذا النحو. إن الشخصية الخلّاقة لها القدرة على خلق مناخات اجتماعية جديدة في الحالة الطبيعية لكنها تبقى متمسكة إلى حد كبير بمناخاتها الأولى التي تكون عميقة الوصال. في حالة المرض بالوحدة يعتمرها شعور مبالغ فيه بالخوف من العلاقات الجديدة, كباقي الشخصيات المريضة, حيث تنعدم القدرة على التمييز بين ما هو شعور حقيقي و بين الوهم أو الحاجة للشفاء من المرض عبر علاقة ما تشعرها بمعنى الوجود, الخوف من الاخفاق الجديد و من انتكاسة المرض الذي يترتب عليه تراجع مخيف في الثقة بالنفس. نعود و نسأل هل المشكلة هي مشكلة وجود؟ بالتأكيد نعم, فالنفس التي تشعر بهذه القدرة خاصة في الحب (أي عن طريق علاقة الحب مع الآخر كإنسان أو مع الآخر كشيء ما), لا تصاب بهذا المرض. ولما كان الحب هو وقاية فهل ينفع كعلاج؟
في الحقيقة ليس هناك وصفة طبية! لكن على أية حال, من الممكن أن يُشفى المرء بالعثور على معنى للوجود. البعض لخص هذا المعنى بعبارة بسيطة “الحب”. يتأسس هذا المفهوم على أساس علاقة بين شيئين اثنين, إذن على رابطة قوية مع الوجود ككل, حيث يشعر المرء بأهميته و فاعليته أي بمعنى وجوده من خلال قدرته على العطاء. يسعى هذا المفهوم أيضا ً لاثبات أن المرء ليس قادرا ً على ايجاد هذا الشعور إلا عن طريق الآخر, فلا يمكن اثبات الوجود إلا عن طريق الآخر بالتالي هو نقيض الوحدة و الأنانية و النرجسية و كل المفردات و التصرفات التي تعبر عن محاولات النفس اثبات وجودها لوحدها او عن طريق الذات. يبدو للوهلة الأولى أنه حل ساذج, أو ربما نسبي لا يمكن تعميمه. في الحقيقة, أرى أنه من أعقد الحلول النفسية, و هو ليس ببسيط و هو عام بغض النظر عن أساليب التطبيق. من الواضح أنه وقاية ناجحة من الوحدة كمرض, فبتفاعل المرء مع الآخر و تشكيله لمنط أو شعور عاطفي ما يقوم بحماية نفسه من الانعزالية. لكن لا يبدو لي أنه علاج فعّال دائما ً, فهو سيف ذو حدين, يدفع المرء إلى حصر خلاصه في مخرج واحد عن طريق علاقة ما مع آخر وحيد, في حده الأول يمكن القول بإمكانية العلاج النهائي من المرض (بحسب نسبة تفشيه في النفس) حيث النجاح في تأسيس تلك العلاقة يعني الثقة بالنفس و البدء بتشكيل نواة لمعنى وجودي يمكن أن تتوسع مع الزمن, أما في الحد الثاني يمكن القول بالانهيار النفسي حيث الفشل في تأسيس تلك العلاقة يقود إلى العكس تماما ً, و لا يمكن التنبؤ بردات الفعل النفسية على الاطلاق, لكن العودة إلى الانطوائية الشديدة هي أحد رموز الانتكاسة النفسية.< المشكلة في الحقيقة أنه كلما تقدم الزمن مع هذا المرض تصبح النفس في قوقعة مظلمة لا ترى مخرجا ً إلا عبر ممر وحيد ضيق. إنها مشكلة عويصة للغاية, فعندما ترى مخرجا ً واحدا ً تدفع بكل قواها نحوه و يصبح الأمر مبالغا ً فيه لحد يُفشله في أغلب الأحيان. الوضع الأسوء برأي في كل هذه المعمعة, هو أن تكون النفس مدركة تماما ً لواقع المشكلة و مخاطرها و الحلول و الفشل و عواقبه, ففي هذه الحالة تسعى إلى الالتفاف على العقل و الكذب و التلاعب و الايهام بعدم وجود مشكلة في الأصل مما يقود إلى تناقض نفسي عميق يفاقم مشكلة الانعزالية و الوحدة و يصبح المرء غير قادرا ً على البقاء مع نفسه أبدا ً لكثر الخذل الذي أوقعت به نفسه, و ربما يسبب لاحقا ً انفصاما ً في الشخصية.
ربما يفكر المتفائلين بحلين: أولهما هو محاولة النفس الخروج من أكثر من مخرج و توزيع كل الطاقات عليها دفعة واحدة, بالتالي تصبح فرص الشفاء أكبر و الانتكاسات أقل بكثير, بينما الحل الثاني يشير إلى استمرارية النفس بالمحاولات رغم الفشل, فبمجرد المحاولة تكتسب النفس مسكنات علاجية تُبقي حالتها مستقرة دونما تفاقم. بالنسبة للحل الأول يمكن أن يكون حلا ًمعقولا ً في البدايات الأولى للمرض لكن في مرحلة متقدمة قليلا ً يصبح مستحيلا ً لعدم قدرة النفس على رؤية أكثر من مخرج كما قلنا سابقا ً. بكل الأحوال لا بد من الاعتراف أن قدرة الاستجابة تتفاوت من نفس لأخرى وفق ظرف زماني و مكاني متوافق والحالة بحد ذاتها, أي أنه لا بد من أن تكون النفس على وعي تام لرغباتها و قدراتها و توافقهم التام مع الظرف الزماني (عمر النفس بشكل أساسي) و مع الظرف المكاني (وسط اجتماعي مقبول) اللذان يسمحان برؤية مخارج متعددة للأزمة. بالنسبة للحل الثاني لا بد من تركيز النفس على ما يمكن أن تصل به في حال استمرت هكذا, فتفاقم الأزمة يمكن أن يؤدي إلى الحزن ثم الاكتئاب الشديد و أخيرا ً إلى التدمير الذاتي أي الانتحار. انطلاقا ً من وعي النفس لمخاطر تفاقم المرض يمكن لها أن تندفع للقيام بالمحاولات و في حال الفشل تعود لتركز على تلك المخاطر و هكذا. لكن تبقى هناك نقطة مهمة للغاية لا بد من ذكرها: الحل باستمرارية المحاولات يحتاج إلى أرضيات أساسية تتركز بالمحيط الاجتماعي الذي يسمح بتكرار المحاولات من جهة و تأمين دعائم عاطفية بحتة أي بدائل تشجع النفس على تكرار المحاولة. تُلخص هذه البدائل في وجود نجاحات محققة في هذا المجال في وقت سابق يمكن استثمارها لزرع بصيص أمل, فبدون هذه الدعائم يصبح الأمر شبه مستحيل: فحال النفس هكذا كحال العطشان في وسط الصحراء يسعى دائما ً وراء السراب دونما كلل أو ملل, لكن الخطورة تكمن في تكرار الاخفاقات و تشابه وقائعها و الوصول بعدها إلى ما يُحمد عقباه من انعزالية و حتى ربما إلى انفصام في الشخصية. أخيرا ً أرى بُدا ً من التركيز على معنىً وجوديا ً للمرء, فهو السبيل الوحيد للوقاءية و ربما العلاج من هذا المرض. و ليس هذا و حسب و إنما له القدرة على دفع الشخصية لابراز قدراتها الخلّاقة من خلال التفاعل الاجتماعي, الأمر الذي يفضي إلى نمو الابداعات الشخصية, و بعبارة أبسط يفضي أن تصبح الوجوه الرمادية لمجتمعاتنا ميالة لتكون بيضاء.
http://outofspacetime.wordpress.com/