-الولاء اليساري- للحُكْم السوري!
جواد البشيتي
من تجربة شخصية أقول ليس ثمَّة ما هو أشَقُّ على نفس المثقَّف أو الكاتب “اليساري (مع أنَّ مصطلح “يساري” أصبح فضفاضاً بما جَعَل معناه أقرب ما يكون إلى اللامعنى)” من أنْ يقف موقفاً مناوئاً لنظام حكم بشار الأسد، انطلاقاً من تأييده للشعب السوري في حراكه الثوري، أو ثورته، ضدَّ نظام الحكم هذا؛ فكَم كان سَهْلاً أنْ يتقبَّل مثقَّفون يساريون وقوميون موقفاً لي مؤيِّداً لثورة 25 يناير في مصر ضدَّ نظام حكم مبارك (أو مؤيِّداً لثورة الياسمين في تونس ضدَّ نظام حكم زين العابدين بن علي) وكَم هو صعبٌ وشاق عليهم الآن أنْ يتقبَّلوا أنْ أقِف الموقف نفسه من طرفيِّ الصراع في سورية؛ فعندئذٍ، أُصْبِحُ في خندق واحد مع القوَّة الإمبريالية العظمى في العالم، وحلفائها من قوى غربية وعربية، ومن قوى إقليمية، في مقدَّمها العدو القومي الأوَّل للعرب، وهو إسرائيل؛ لا بلْ أُصْبِحُ من الجنود الإعلاميين لـ “الجزيرة” و”العربية”، ومِمَّن يبيعون المبادئ والمواقف لسادة “البترودولار”؛ فَمَنْ ليس مع نظام حكم بشار (الذي يُمثِّل، من وجهة نظرهم، البقية الباقية روح المقاوَمة القومية لأعدائنا القوميين، وفي مقدَّمهم إسرائيل) فلا مناص له من أنْ يكون مع “الطرف الآخر (أو الفسطاط الآخر)” والذي هو “الشيطان الرَّجيم” بميزان “المبادئ القومية واليسارية”.
و”المَرِنون” فكرياً منهم لا يُنْكِرون، إذا ما جادلتهم في أمْر نظام حكم بشار، مساوئه ومثالبه وخلاله، والتي منها “ضآلة ديمقراطيته”، و”سطوة أجهزته وقواه الأمنية”، و”فساده البيروقراطي (وغير البيروقراطي)”؛ لكنَّ هذا، وغيره، يجب ألاَّ يُتَرْجَم بمواقف منه يُنْكِر فيها أصحابها (مِمَّن يشبهونهم فكرياً) مآثره القومية، وفي مقدَّمها عداؤه لإسرائيل، ونصرته للمقاومين العرب (لهذا العدو) في لبنان وفلسطين؛ و”الموقف السليم”، من ثمَّ، هو “الدَّعوة (التي هي بمعنى “الدُّعاء”)”، في استمرار، إلى “الإصلاح”، الذي فيه، وبه، يُصْلِح نظام حكم بشار نفسه (بنفسه، وبمعونة حلفائه وأصدقائه) مُلبِّيَّاً مطالب وحقوق الشعب المشروعة، فيَبْقَى مع كل ما هو “إيجابي” فيه، من الوجهة القومية، ويَرْسُخ أكثر بفضل هذا “الإصلاح” الذي فيه، وبه، أضاف “مآثر ديمقراطية” إلى “مآثره القومية”.
حلفاؤه وأصدقاؤه (من المثقَّفين القوميين واليساريين العرب) لن يختلفوا معه في ضرورة وأهمية أنْ يأتي “الإصلاح السياسي والديمقراطي” بما يُحَصِّن (أو بما لا يتعارَض مع) نهجه القومي المقاوِم؛ فـ “الديمقراطية” ليست في حدِّ ذاتها بذي أهمية؛ وهي تستمد أهميتها من مساهمتها الإيجابية (الافتراضية) في “المعركة القومية”؛ فـ “القومي” أوَّلاً، وهو يَعْلو ولا يُعْلى عليه!
إنَّني لا أستغرب هذا المسخ لـ “الديمقراطية”، بجوهرها وأساسها؛ فإنَّ هؤلاء الحلفاء والأصدقاء فَهِموا دائماً (ومنذ الأزل) الطرائق والأساليب الفاشية في الحكم (والتي هي نَفْيٌ خالِص للديمقراطية من حيث الجوهر والأساس) على أنَّها ضرورة من ضرورات الصِّراع ضدَّ الإمبريالية (والرأسمالية) وفي سبيل “الاشتراكية” و”الاستقلال القومي”؛ ناسين، أو متناسين، أنَّ “الغاية التاريخية الثورية الكبرى” ليست نَفي وإلغاء “الديمقراطية (البرجوازية)”، وإنَّما الاحتفاظ بكل ما كفلته من حقوق ديمقراطية (للأفراد والجماعات) مع توسيع وتعميق وزيادة وتفعيل هذه الحقوق.
“الدكتاتور”، في زماننا، ولو كان صلاح الدين الأيوبي، ما عاد ممكناً قبوله شعبياً؛ فـ “الحرية السياسية للشعوب (والحقوق الديمقراطية للأفراد والجماعات)”، وبصرف النَّظر عمَّا يمكن أنْ يتمخَّض عنها من نتائج سلبية، وفي مستهل ممارستها على وجه الخصوص، هي أوَّلاً، والغاية التي لا تعلوها غاية؛ فهذه الحرية، مع الديمقراطية بأوجهها كافة، إنَّما هي الآن نمط عيش (ونمط تفكير) للشعوب؛ للأفراد والجماعات جميعاً.
والشعوب ما عادت تَقْبَل أنْ تشتري من الحاكم بأمره (الدكتاتور) أيَّ “إنجاز (قومي، أو غير قومي)” بـ “الثَّمَن القديم”، والذي هو أنْ تَقْبَل نفي حقوقها الديمقراطية، وتطاوله عليها؛ فهذا “الإنجاز”، ومهما عَظُم، لا يبقى “إنجازاً”، إذا ما كان ثَمَنه رسوخ الدكتاتورية، ونفي الديمقراطية.
والمأساة تَعْظُم في “المثال السوري”، أيْ في مثال “حكم بشار الأسد (ووالده من قَبْله)”؛ فليس من صِدْقِية تُذْكَر لمزاعمه القومية، وليس من “إنجاز حقيقي” له في الصِّراع القومي ضدَّ إسرائيل والقوى الإمبريالية، ولا في الصِّراع الحضاري للأمَّة؛ فهو إنَّما يتسربل تسربلاً بكل كلام قومي يمكن أنْ يَقَع موقعاً حسناً من نفوس شعبه والعرب، لعلَّ وقوف المرء وجهاً لوجه أمام هذه “الشَّجرة (من الشعارات القومية)” يَمنعه من رؤية “الغابة كلها”، والتي هي كناية عن حُكْمِه الدكتاتوري، وعن عدائه للشعب إذا ما أراد الحرية، وثار من أجل نيلها.
سببان يكمنان في ثورة الشعب السوري على نظام حكم بشار: اشتداد الحاجة لديه إلى أنْ يحيا حياة ديمقراطية حُرَّة، وإيمانه (الذي في منزلة الإيمان الدِّيني) بعدم صلاحية نظام الحكم هذا لخوض، وقيادة، صراع قومي حقيقي ضدَّ إسرائيل وحلفائها.
والتاريخ، الذي عن حقائقه يَضْرِبون صفحاً، لم يَعْرِف شعباً انتزع حريته السياسية، وأخَذَ بالديمقراطية شكلاً لنظام حكمه، ونمط عيش (وتفكير) له، لُيَفَرِّط، من ثمَّ، بحقوقه الديمقراطية، مستخذياً لمشيئة أعدائه القوميين؛ فالشعوب الأكثر حرية وديمقراطية هي وحدها الأكفأ في خوض الصِّراع ضدَّ أعدائها القوميين كافة؛ فلا تخشوا على سورية من سقوط نظام حكم بشار، واخشوا عليها من بقائه، ومن سعيه إلى البقاء بالطرائق والأساليب التي اتبعها في “التريمسة”.