انهيار العراق وصعود «الدولة الإسلامية»: صنع في أمريكا؟
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
تنتشر الفوضى من منطقة الشرق الأوسط إلى خارجها مع هجرة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين نحو أوروبا. على مدى العقد الأخير فإن الملايين من العراقيين والسوريين فروا من ديارهم. في حين تثبت الحكومات الغربية أنها تبرع كثيرا في توجيه اللوم دون إيجاد الحلول.
تعمد سردية الجمهوريين إلى أن كل مشكلة، بما في ذلك في الشرق الأوسط، هي خطأ «باراك أوباما». وعلى الرغم من تأكيدهم على أهمية الاستقلالية والاعتماد على الذات بالنسبة للولايات المتحدة فإنهم ينكرون أي مسؤولية أو مساءلة تقع على عاتق حزبهم. ووفقا للحزب الجمهوري، يبدو أن «جورج بوش» قد غادر الرئاسة والعالم يسبح في الأمن وأن إدارة «أوباما» العاجزة هي من سمحت بانهيار العراق وصعود «الدولة الإسلامية».
على سبيل المثال، دافع «جيب بوش» عن سياسات أخيه وأشار إلى النجاح الرائع والبطولي والمكلف لزيادة القوات العراقية متسائلا عن سبب سحب القوات الأمريكية من العراق رغم أن بقاءها كان ضروريا. واشتكى «بوش» بقوله: «الآن صار لدينا الدولة الإسلامية» . وأكد «بوش» أنه « لو كانت الولايات المتحدة قد حافظت على 10 آلاف من قواتها ربما لم يكن لدينا الآن ما يعرف بالدولة الإسلامية». وأعلن «بوش» صراحة قوله: «الشيء الوحيد الذي أقوله عن أخي أنه جعلنا آمنين».
وأعلن «بوبي جاندال» أن المشاكل التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم ليست بسبب قوة الرئيس «بوش» ولكن بسبب ضعف الرئيس «أوباما». هذه التصريحات جميعا هي من قبيل البحث عن المصلحة الشخصية والجري وراء الأوهام، والخيال السياسي. في الحقيقة، فقد تسببت إدارة «جورج دبليو بوش» في أسوأ المشاكل الجيوسياسية التي نعاني منها اليوم.
أخطاء إدارة «بوش»
أولا: استخدم الرئيس «بوش» هجوما إرهابيا أجراه مواطنون سعوديون تدربوا في أفغانستان كذريعة لغزو العراق، وهو هدف للمحافظين الجدد منذ فترة طويلة ضمن خطتهم لإعادة ترتيب الشرق الأوسط. برر مسؤولو الإدارة حربهم الوقائية بناء على ادعاءات ملتوية من مهاجر غير شريف كان يأمل في حكم العراق. دعاة الحرب كانوا يخططون لإقامة حكومة ليبرالية متحالفة مع الغرب تحكمها دمية أمريكية، وصديقة لإسرائيل، وتكون موطنا وقاعدة للعمليات العسكرية الأمريكية ضد جيرانها. وأسفرت هذه الخطط في النهاية عن لا شيء. . أكثر من عقد من الزمان، ولا يوال ينظر للغزو من قبل محللي السياسة الخارجية على أنه خطأ تاريخي بل على إنه أسوأ خطأ في السياسة الخارجية الأمريكية منذ عقود.
ثانيا: بعد الإطاحة بالديكتاتور السني الذي أبقى حكمه الاستبدادي الأمة موحدة، أساءت الإدارة التعامل مع كل منعطف. فشلت الولايات المتحدة في بسط سيطرتها ما سمح بانتشار أعمال النهب على نطاق واسع. كما حلت الجيش وأسهمت في خلق مجموعات كبيرة من الشباب الغاضبين والعاطلين عن العمل. ثم حاولت واشنطن إعادة تشكيل المجتمع العراق وتمرير دستور من صنع أمريكي. وتدخلت تعيينات الولايات المتحدة في كل شيء حتى صياغة لوائح المرور في بغداد.
أنشأت الإدارة نظاما طائفيا في العراق. ومع تصاعد حدة الصراع وتفتت العراق لقي أكثر من 200 ألف عراقي حتفهم وفر مئات الآلاف من المسيحيين من بلادهم كما تم تشريد الملايين من العراقيين. في خضم حركة التمرد والحروب الأهلية دعمت الإدارة «الصحوة السنية»، التي من خلالها تحولت العشائر السنية ضد تنظيم القاعدة في العراق. ومع ذلك فشلت الإدارة في تحقيق أهدافها الأساسية في المصالحة بين الطوائف.
استمر «بوش» في دعم حكومة «المالكي» التي استهدفت السنة بغير رحمة، الأمر الذي مهد الطريق نحو التفكك الفعلي للعراق. في عام 2007 كتب مستشار عسكري أمريكي يدعى «إيما سكاي» حول إحباط الجيش الأمريكي بسبب ما وصفوه ب«مخططات المالكي وحاشيته لتخريب جهودهم لاستيعاب التمرد السني». نشط تنظيم القاعدة في العراق الذي تحمل فيما بعد إلى «الدولة الإسلامية». وأصبحت إدارة «بوش» هي أكبر موردي السلاح للدولة الإسلامية حينما هرب الجنود العراقين الذين صنعتهم في مواجهتها تاركين أسلحتهم المكلفة وذات التقنية العالية والتي كان على الطائرات الأمريكية أن تسعى لتدميرها العام الماضي.
ثالثا: فشل الرئيس «بوش» في الحصول على موافقة العراق على استمرار الوجود العسكري الأمريكي وتنظم اتفاقية وضع القوات. ومع استعداد الأمريكيين للرحيل ورغبة العراقيين في المضي قدما فقط وضع «بوش» خطته للخروج الأمريكي. وأوضح قائد الجيش المتقاعد الجنرال «يرموند أوديرنو»: «مغادرة القوات الأمريكية في عام 2011 تم التفاوض عليها في عام 2008 من قبل إدارة بوش. كنا قد قدمنا لهم وعدا أن نحترم رغبتهم في فرض سيادتهم».
في الواقع، في حين يتعامل المرشحون الجمهوريون الآن مع هذا الانسحاب على أنه شكل من أشكال الفشل كما زعم «جيب بوش» أن «الانسحاب المبكر كان خطئا فادحا»، فإن محاولة البقاء كانت لتصبح أسوأ من ذلك بكثير. كان «المالكي» يرغب في بقاء قوات أمريكية والتي لم يكن لها في الآونة الأخيرة تأثير يذكر على التطورات السياسية العراقية باستثناء نشرها في عمليات مكافحة التمرد، والتي لم تكن تحظى بقبول الأمريكيين. كما أن استمرار الاحتلال الأمريكي كان يعزز وجهة نظر المتشددين من كلا الفريقين ويوفر لهم أهدافا أيضا.
باختصار، نتيجة لقرار إدارة «بوش» بغزو العراق ولدت «الدولة الإسلامية» من رحم الفوضى في بلاد ما بين النهرين. كان الغزو خطئا بالغ الأهمية. واستمرار الاحتلال يضاعف من تأثير هذا الخطأ الأولي.
إدارة «أوباما» واستكمال مسيرة الأخطاء
وقد لعبت إدارة «أوباما» دورا خبيثا لكنه ثانوي. مثل سابقتها، فقد واصلت التدخل بأكثر مما هو مطلوب. على سبيل المثال، واصل الرئيس «أوباما» دعمه لحكومة «المالكي» في العراق رغم تكرار تجاوزاتها الطائفية. لم تبذل واشنطن ما يكفي من الضغط على الحكام السياسيين الشيعة لتقديم تنازلات لكسب ود السنة. بقاء قوات أمريكية في العراق لم يكن ليغير الكثير في ظل هذه الأوضاع. فشلت إدارة «بوش» في إصلاح حكومة بغداد عندما كان هناك عشران الآلاف من الجنود الأمريكيين يقاتلون نيابة عنها في العراق.
في سوريا، أحبطت واشنطن عن غير قصد أي تسوية للتفاوض بين« بشار الأسد» وبين المعارضة المعتدلة من خلال إصرارها على رحيل الأول، والذي أقنع بعض المعارضين للنظام أن الولايات المتحدة سوف تجبر «الأسد» على الرحيل. مما لم يجعل هناك حاجة للبحث عن حلول وسطى أو تسوية مبكرة للصراع.
ثم رفضت الإدارة على ما يبدو المبادرة الروسية لإزاحة «الأسد» عن السلطة. ذكرت صحيفة الجارديان مؤخرا أن الرئيس الفنلندي السابق «مارتي أهتيساري» عقد مباحثات في فبراير/ شباط 2012 مع ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الدائم اقترحت خلالها موسكو رحيل «الأسد» كجزء من مباحثات السلام. ومع ذلك، فإن واشنطن، جنبا إلى جنب مع فرنسا وبريطانيا كانوا يعتقدون أن «الأسد» في طريقه للسقوط لذا فقد رفضوا المبادرة الروسية. في ذلك الوقت ما يقدر بنحو 7500 من السوريين كانوا قد لقوا حتفهم في النزاع بالمقارنة مع عدد القتلى الحالي الذي يقترب من ربع مليون، وهو ما دفع «أهتيساري» لوصفها بالفرصة الضائعة.
وحولت إدارة «أوباما» ليبيا إلى بؤرة أخرى للصراع مع تأييد أوربي لإطاحة محدودة الكلفة بالنظام تحت شعار دعم خيارات الشعب اللليبي. ولدت هذه السياسة الفوضى، التي أبرزتها الحكومات المتنافسة وانتشار الميليشيات المسلحة. وفي النهاية ظهرت «الدولة الإسلامية» لتملأ الفراغ.
كما وضع الرئيس «أوباما» مصداقية الولايات المتحدة على المحك من خلال اعتبار الحرب الطائفية للدولة الإسلامية في العراق وسوريا مسؤولية أمريكية دون وجود قوات كافية لأكثر من مجرد احتواء التنظيم. أصبحت إدارة «أوباما» مصدر الأسلحة للدولة الإسلامية بعد أن سلم المتمردون المعتدلون المدعومون من الولايات المتحدة مرارا وتكرارا أسلحتهم إلى فصائل أكثر راديكالية.. ومن المفارقات، فإن أحد قادة «الدولة الإسلامية» الأكثر فعالية، ويدعى «أبو عمر الشيشاني»، قد تم تدريبه مباشرة من قبل الولايات المتحدة كأحد أفراد القوات الخاصة الجورجية. قبل عامين التحق «الشيشاني» بـ«الدولة الإسلامية» ولعب دورا قياديا في تنظيم هجمات على الجيش السوري الحر الذي تدعمه الولايات المتحدة.
أخطاء متواصلة
وللأسف فإن تعزيز الحرب بدلا عن السلام هو أمر لم يبدأ مع إدارة «جورج دبليو بوش». في مارس/أذار 1992 ساعد اللورد البريطاني «بيتر كارينغتون» ووسيط المفوضية الأوربية البرتغالي «كوتيليرو» في التوصل إلى حل وسيط يتمثل في الحكم الذاتي بين قيادة العرق الكرواتي البوسني وأبرزهم «ماتي بوبان» وبين القيادي الإسلامي «على عزت بيجوفيتش» والقائد الصربي «رادوفان كارادزيتش». ومع ذلك، بعد اجتماع السفير الاأميركي في يوغوسلافيا «وارن زيمرمان» مع «بيجوفيتش» فقد تخلى الأخير عن دعمه لما عرف بعد ذلك باسم اتفاق لشبونة. نفى «زيمرمان» تقديم دعم الولايات المتحدة لاستقلال البوسنة، ولكن لا أحد يعتقد أنه شجع حلا وسطا. اشتكى «كوتيليرو »في وقت لاحق أن «الرئيس عزت بيغوفيتش ومساعديه تم تشجيعهم للقتال من أجل دولة بوسنية وحدوية من قبل أطراف خارجية تدعي أنها تعرف أكثر». ولو تم تنفيذ الاتفاق فربما كان ذلك كفيلا بمنع الحرب الأهلية اليوغوسلافية التي خلفت عشرات الآلاف من القتلى.
من المستحيل تجنب المأساة الساحقة الآن في الشرق الأوسط. واشنطن تتحمل المسؤولية الأكبر بشأن ذلك الصراع الكارثي. على الرغم من أن الرئيس «باراك أوباما» يتحمل جزءا من اللوم، فإن الرئيس «جورج دبليو بوش» هو من اتخذ أهم القرارات التي أدت إلى تدمير العراق وصعود «الدولة الإسلامية». أي مرشح يبدو غير راغب وغير قادر على التعلم من أخطائهم الكارثية فإنه غير مؤهل للجلوس في المكتب البيضاوي.
المصدر | ناشيونال إنترست