“بدايات”.. المصاحبة الحميمة للتحولات
بغلاف مستوحى من فن “الغرافيتي” حمل عبارة “مصر الثورة لا عسكر ولا إخوان” صدر العدد السادس من المجلة الفصلية الثقافية الفكرية “بدايات”، التي يرأس تحريرها فواز طرابلسي.
وهي “بدايات” تصاحب حقاً تلك البدايات الكبرى ووعودها واشاراتها “التاريخية”، مصاحبة حميمة وعارفة ومتفحصة إلى حد الطموح بالمشاركة في تأليف تلك البدايات، كلمة وفكرة وملاحظة ومتابعة. طموح اجتراح التي تقول ما يحدث، وما سيحدث. طموح تأليف مواءمة جديدة بين المتغير والتعبير عن هذا المتغير، والذهاب مع التحولات بارادة التحول والفعل فيها. أي الابتكار أو البحث عن التعبير الثقافي الطالع حقا من قلب هذه التحولات، لا إسقاط ما هو جاهز وكائن من عدة قول وفكر ومنظومات ثقافية على مجريات عاصفة وثورية لم تنته بعد.
تتصف “بدايات”، خصوصاً في عددها هذا، بكونها مجلة عربية، أي قادرة أن تكون حاضرة في كل الجغرافيا العربية وكأنها “محلية” متصلة بشؤون وطنية (مصرية، تونسية، يمنية، لبنانية، بحرينية..) لكنها أيضاً موصولة وواصلة للمشترك العابر للحدود، وناظرة إلى العوالم الأرحب والمؤثرة على مسار التحول في العالم العربي، من إيران إلى تركيا واليونان.. في نسق رواية يمكن ان نسميه اصطلاحاً “اليسار الجديد” يسار ديموقراطي هو أقرب إلى عنوان إحدى مقالات العدد “ثورة جيل ضد التعقيم الأيديولوجي”.
أيضاً، تنجز “بدايات” في سادس اصدارها، إحدى أصعب المهمات، أن تكتشف أقلاماً جديدة بالتلازم مع شرط الكتابة الجديدة، المرجوة في كل بدايات. فهذه المجلة تقدم أسماء جديدة من الباحثين والمفكرين والكتاب، يبدو أن معظمهم مقيم في الخارج، من الرعيل الجديد الذي يعمل بكفاءة في مراكز أبحاث وجامعات أجنبية، وأغلبهم لا يكتب بالعربية، وليس من سلالة “الفكر العربي” الدارج والسائد. إنهم نفحة جديدة وزخم تلح الحاجة إليه، في لحظة تأخر “الكتابة العربية” المكرسة، على نحو فاضح، عن كل ما حدث وعن معاني ما حدث في الساحات والميادين العربية.
تحمل “بدايات” موضوعات عدة، أبرزها الملف “مصر الثورة” الذي يتضمن عشر مقالات موسعة، تتطرق إلى “الحلم الاجتماعي والسلطة والثورة” و”بين فاشية مجهضة وأخرى محتملة” و”التنمية بالاستبداد، نموذج يداعب خيال صناع القرار” و”المجموعات الشبابية بعد 25 يناير”.
من عرسال إلى المنامة، ومن تونس إلى القصير إلى متاريس حديقة غيزي في اسطنبول.. وقراءة عن “النساء والربيع العربي ـ دروس من إيران”.
حيز خاص للصورة الفوتوغرافية، صورة فلسطين التاريخية، وحيز للموسيقى الجديدة البديلة، وقراءات رصينة تعود إلى غرامشي لتستقرئ الثورات العربية، أو تعود إلى حنا بطاطو استدلالاً لما حدث في النموذج العراقي “من أهل الدولة إلى دولة الأهل”.
من إغواءات العدد الجديد ما كتبته ميسون سكريه، أستاذة انتروبولوجيا في جامعة براون الأميركية عن “السيدة العربية الأولى في الصحافة الغربية: تمكين المرأة والوجود الاستعماري في العالم العربي المعاصر” منه نقتطف: “كيف يمكن ثورة عظيمة كالثورة المصرية أن تؤدي الى وجود سيدة أولى محجبة من رأسها الى قدميها.” سأل مهندس في الثلاثين من العمر، في معرض تعليقه على صورة انتشرت على الانترنت تقارن ملكة مصر في الثلاثينيات ناظلي ـ ترتدي “فستاناً عصرياً” بشعرها المصفف والمكياج يغطي وجهها ـ بنجلاء محمود، زوجة أول رئيس مصري منتخب بعد ثورة 2011 في لباس تقليدي، وهي تضع الحجاب على رأسها، وترتدي عباءة.
بعد انتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي هذه الصورة، وغيرها، التي تقارن نجلاء بالسيدتين الأوليين السابقتين: جيهان السادات وسوزان مبارك، غير المحجبتين، ثم تداولت المواقع النكات التي تسخر على نطاق واسع من لباس نجلاء التقليدي ولهجتها الشعبية؛ وقلقت النخبة المصرية من صورة نجلاء، وبالتالي صورة مصر في الخارج. “لا استطيع أن اسميها سيدة أولى تحت أي ظرف”، قال أحمد صلاح، المصرفي ذو التسعة وعشرين عاماً الذي كان يتناول القهوة في الزمالك على شاطئ النيل مع أصدقائه. وأضاف: “لا يمكنها أن تكون صورة نساء مصر”. بالنسبة إلى هذا الجيل الشاب، مثلت نجلاء الرجعية والصعيد الذي يخشونه (الشيخ، 2012)، انتشرت نقاشات موازية عن نجلاء في الصحافة الغربية. فعلى سبيل المثال، لحظت صورة شخصية عنها في صحيفة “نيويورك تايمز” أنها “على عكس من سبقها من سيدات أول لمصر انيقات ويحملن الجنسية البريطانية، فإن القصر الرئاسي المصري يرحب بربة منزل من مدينة صغيرة تحب أن تسمى بطريقة تقليدية بوصفها والدة ابنها البكر”. فئات اجتماعية أخرى في مصر اعتبرتها تمثل “صورة التغيير” وتمثل المرأة المصرية الحقيقية، لا الأخريات، لأنها تشبه “أمنا” أو “أختنا” ومعظم “النساء اللواتي تلتقي بهن في شوارع مصر”.
لماذا يركز شبان مصر بعد الثورة على صورة “السيدة الأولى” وليس على ما تمثله سياسياً؟ ما هو نموذج السيدة الأولى الذي اراد البعض الحفاظ عليه، فيما كان آخرون سعداء بأنه اصبح جزءاً من التاريخ؟ في هذا العرض سأناقش صورة وممارسات السيدات الأول اللواتي اعتبرن مثال المرأة المسلمة والعربية العصرية، في العالم العربي والغرب على حد سواء. أولى المتقدمات لهذا الدور التقليدي كانت جيهان السادات وسوزان مبارك من مصر، والملكة نور من الأردن، والشيخة موزة من قطر، لكن أكثر السيدات الأول أهمية، رمزياً بالطبع، كانتا الملكة رانيا من الاردن، وأسماء الأسد من سوريا. أكثر من أي مواطن في المنطقة، رأت الصحافة العربية الغربية والعالمية، والسياسيون والمنظمات الدولية، إلى هاتين المرأتين على أنهما أهم ممثلتين للمرأة العربية الجديدة: امرأة “تحديثية”، متمكنة، وملتزمة مباشرة في مروحة واسعة من النشاطات الاجتماعية والسياسية التي تهدف الى “سد الفجوة” بين الشرق والغرب، بين “التقليدي” و “الحديث”. بذلك نعطي صورتا رانيا وأسماء فرصة ثمينة لمساءلة نقدية تجاه خطاب تمكين المرأة وسياسات التمثيل