بشار الأسد و توصيفه للصراع الدائر في سوريا
فراس قصاص
في حديثه لصحيفة الصنداي تلغراف اللندنية بتاريخ 29 تشرين الأول من العام الجاري ، اعتبر الرئيس السوري بشار الأسد أن الأحداث التي تشهدها بلاده تندرج في إطار الصراع بين علمانيين وإسلاميين متطرفين أو إرهابيين على حد تعبيره ،لم يكن منطق الرئيس السوري الذي يرى من خلاله الأمور والحيثيات السورية مفهوما على نحو كاف، و لم يسرد أدلته أو دواعي اعتباراته تلك، لكنه بدا مستبطنا لمجموعة من المعطيات التي عرفت عن التظاهرات المطالبة بالحرية في سورية ، من بينها أن معظم هذه المظاهرات إنما تخرج من المساجد وأنها تزداد زخما في يوم الجمعة من كل أسبوع وأن غالبية المنخرطين فيها إنما ينتمون إلى لون ديني ومذهبي واحد هم المسلمون السنة من السوريين.
حتى لو كانت هذه المعطيات صحيحة ، إلا أن الشعارات التي رفعتها التظاهرات السورية ونوع المطالب التي أعلنت عنها وتعدد الألوان السياسية الداعمة لها والمتبنية رهاناتها تدحض جذريا توصيف الرئيس السوري لطبيعة المعركة الحاصلة منذ الخامس عشر من آذار في سورية تاريخ بداية انطلاقة الاحتجاجات في هذا البلد .بل إن هيئة المسرح السياسي السوري الذي رسمته بعناية وبضبط صارم سلطة بشار الأسد ومن قبله والده الراحل حافظ الأسد إضافة إلى وقائع التاريخ المعاصر لسورية قبل وأثناء وبعد جلاء المستعمر الفرنسي عن أرضها تصب في جهة التضليل الذي يلخصه اعتبار الأحداث السورية صراعا بين علمانيين عرب وإسلاميين متطرفين .
فالمسجد في تاريخ سورية الحديث ، لا سيما في مرحلة الاستعمار كان المكان الذي تخرج منه معظم المظاهرات ضد المستعمر الفرنسي وكانت تشهد مشاركة حاشدة من مسيحيي هذا البلد و من مختلف المذاهب الدينية الأخرى ، ولم يكن حينها للإسلام السياسي في سورية أي دور بارز في هذه التظاهرات، إذ لم يكن بعد قد تأسس في سورية أي منتظم سياسي إسلامي واضح ، كما أن معظم رجالات الاستقلال كانت لا تنتمي إلى هذا اللون بأي حال من الأحوال . لم يكن المسجد دارا للعبادة فقط في التاريخ الإسلامي عموما ، بل كان موقعا تزخر فيه تفاعلات اجتماعية سياسية متعددة ، وهذا أمر طبيعي في المجتمعات التي لم تكن لتعرف تنظيمات سياسية أو نقابات عمالية أو فعاليات اجتماعية حديثة.
بالتالي لا يعني خروج هذه التظاهرات في معظمها من المساجد أي بعد ديني ذو هيئة سياسية، خصوصا والشعارات التي ترافق هذا الخروج كلها تطالب بالحرية و سقوط النظام المستبد و معه الرئيس السوري ، لم ترفع أي شعارات تكفر النظام و لا رموزه ، ولا أخرى تطالب بالحاكمية الدينية أو حكم الشريعة ، كل التوصيفات و المطالب التي تلخصها هتافات المتظاهرين تنسب إلى النظام قتله لمعارضيه و سحقه لحقوقهم و سرقته لمقدرات بلادهم وعجزه في مواجهة المحتل مقابل تجبره و طغيانه في مواجهة شعبه الأعزل، و تطلب منه الرحيل.
وقد حاول النظام السوري في بداية التظاهرات أن يدفع بأمنه و مخابراته لاختراق صفوف المحتجين من أجل اختبار شعارات طائفية بغية تعميمها على هذه التظاهرات ، لكن ما لبثت هذه المحاولة أن انكشفت وحوصرت وسقطت موحية للشارع المحتج بهتافات معاكسة تماما ، تؤكد على إرادة التعايش و احترام العقائد بين جميع المكونات الدينية و المذهبية في سورية، هتافات أصبحت مألوفة لدى السوريين .
إن خروج التظاهرات من الجوامع لا تدين التظاهرات السورية بقدر ما تجعلها عاكسة لطبيعة المجتمع السوري الذي تسلط عليه النظام الحالي في سورية ، إذ أبقاه في المراحل السابقة على وجود التنظيمات العصرية الحزبية و النقابية و الاجتماعية و الثقافية ، خروج المظاهرات في معظمها من دور العبادة و اكتسابها زخما يوم الجمع دليل إضافي على استبداد الحكومة السورية التي عملت على تصحير الحقل السياسي السوري ومنع الحوارات الاجتماعية و العمل في الشأن العام .
هذه السياسة بالذات هي المسؤولة عن غلبة التأطير الديني الروحي للاحتجاجات الحالية على أشكال التأطير الأخرى ، في النهاية لو استطاع النظام السوري منع الناس من ارتياد المساجد خوفا من تجمعها فيه لفعل ذلك حتما .
الأدلة الأخرى على هشاشة اعتبار الأحداث في سورية ،صراع بين العلمانية العربية و الإسلام السياسي ، أدلة واضحة و قوية ، و كلها يفضح مزاعم بشار الاسد و محاولته اللعب على عامل الاقليات الدينية باظهارها مستهدفة في الاحداث الحالية التي تشهدها سورية، فرغم دعم الإسلام السياسي و جماعة الإخوان المسلمين لهذه الاحتجاجات إلا أن القوى العلمانية الأخرى جميعها كانت في مقدمة الداعمين لها أيضا، لقد انعقد مؤتمر لقوى علمانية سورية في مدينة باريس تحت عنوان مؤتمر الائتلاف العلماني الديمقراطي السوري لدعم الثورة، عمل على إبراز و تأكيد أن القوى العلمانية التي لم تنخرط في قمع أو فساد أو تواطأت مع النظام خلال حكمه للبلاد هي جميعها في صف الثورة و تدعمها دعما مطلقا، بل أكدت هذه القوى أن وجه الثورة السورية وجه متعدد ومنفتح على الحياة و مراهن على الحرية في أهم معانيها و أكثرها مباشرة.
وهو المعنى الذي يجعلها على نقيض من الاستبداد و القمع و الترهيب و الفساد، و أن الثورة السورية هي في الواقع إرهاص حتمي لتحرير الإنسان من كل أشكال القمع و الاستلاب و الاغتراب الذي يعتمل في حياته ، تحريرا عميقا و شاملا ، ثم إن القوى التقليدية المعارضة للنظام و الداعمة إلى الحدود القصوى للاحتجاجات السورية من قوى إعلان دمشق و قوى هيئة التنسيق الوطني الديمقراطي في معظمها قوى علمانية عربية ، حتى المجلس الوطني السوري الذي نجح في توحيد المعارضة السورية و حاز على تمثيل الثورة تحضر فيه القوى العلمانية بنسبة أكبر من أي قوى أخرى و يزخر بانتماء متعدد لأعضائه بحيث يشمل في عضويته على كل المكونات السورية الدينية و الإثنية و المذهبية و السياسية .
النقطة الأخيرة التي تنفي العنوان الذي افترضه الرئيس السوري لما بات يعتبره السوريون ومعهم غالبية العالم ثورة مشروعة ضد القمع والاستبداد هي في الحقيقة إنما تطال النظام السوري وموقفه العلماني ، نظام بشار الأسد ووالده من قبله على حد سواء، فالنظام الذي أشرف كما يعرف السوريون طوال عقود حكمه على ترسيخ ومفاقمة التناقضات الطائفية بدلا من حلها وإنهائها، لكي تفرز هذه التناقضات عوامل إسناد سياسي وأمني له.
والنظام الذي يبتعد في ممارساته وإدارته لبلاده عن قيم العدالة و المساواة والتحديث المجتمعي و القانوني، ويلجأ إلى القسر في التعاطي مع قضايا الحجاب بنزعه علنا وقسرا عن رأس المحجبات ( كما حدث في مرحلة حكم حافظ الأسد ) ،أو يمنع النقاب والمنقبات من دخول الجامعات بشكل أوامري استبدادي ( القرار الذي اتخذه نظام بشار الاسد العام الماضي )، ثم لا يتردد في قصف المساجد و في التحكم بمسار الدين و التدين و يوظف هذا التحكم لضرب الهويات الدينية المتعددة للشعب السوري بعضها ببعض ، مثل هذا النظام لا يمكنه أن يكون نظاما علمانيا ، فذلك ما يتعارض و يتناقض مع القيم التي توفرها و تعمل من اجلها العلمانية بالمعنى الواسع و المنفتح للكلمة في أي مجتمع كان، هذه الممارسات هي أقرب إلى النازية و الستالينية و منطق العصابة التي تفرق لكي تسود، و ليس غير ذلك .
كاتب و ناشط سياسي سوري