بشار الأسد يتجوّل في”أفينيون”!
أحمد باشا
لا توجد مدينة في العالم ارتبط اسمها في العصر الحديث بالمسرح كما هو حال مدينة أفينيون. المدينة الصغيرة الواقعة في أقصى الجنوب الفرنسي، يستقطب مهرجانها الشهير، في تموز من كل عام، آلافاً من محترفي وهواة ومحبي المسرح. هكذا، تتحول أفينيون إلى مخبر إبداعي، أو إلى خشبة عرض كبيرة، يؤم إليها المسرحيون ليعرضوا أعمالهم وكذلك المتابعون الباحثون عن آخر نتاج المسرح الحديث في العالم.
في العام 1947، اقترح الشاعر الفرنسي رينيه شار على صديقه جان فيلار فكرة فيلم سينمائي. إلا أن الفكرة التي فشلت في بدايتها، أسست فيما بعد واحداً من أهم مهرجانات العالم. ففي نفس العام قدّم جان فيلار ثلاث مسرحيات، وذلك بدعم من صديقه الشاعر، فعرضت مسرحياته في قصر الباباوات بأفينيون على هامش معرض للفن تشكيلي.
المدينة التي تسمّى بـ”مدينة الباباوات”، نسبة إلى عدد من الباباوات المزيّفين الذين عاشوا فيها في القرن الرابع عشر، عادت في الخامس من الشهر الجاري لتفتح أبوابها، مستقبلة مهرجان أفينيون بنسخته السابعة والستين. فعند الساعة العاشرة والنصف ليلاً من اليوم نفسه، كان الآلاف يتدافعون للوصول إلى شارع آيزنهاور، ليجدوا أمكنة للوقوف في ساحة حفل الافتتاح.
استمر توافد الصغار والكبار، بعدها بدأ الحفل الضخم في ساحة فابريكا لفرقة “المجموعة أف”: شاشة عملاقة أمام الجمهور، تعرض عليها مجموعة أعمال بصرية، يتحرك الممثلون بأجسادهم وبحركاتهم البهلوانية. كانوا يكلمون رسم اللوحة، وسط استمرار توافد الأعداد البشرية الهائلة إلى ساحة الحفل، ليجدوا لأنفسهم مكاناً تحت سماء أضاءتها الألعاب النارية.
بعد انتهاء الحفلة، كانت الوجهة نحو الصالة الخاصة بالمشاركين في المهرجان. على الطريق، تحاصرك الملصقات من كل صوب، فتأمّل كل واحد منها شبه مستحيل، لكن بسرعة، تخطر في بالك العناوين العريضة التي اختارها مبرمجو هذه الدورة، لا سيما تيمات التحرر والتوجه للآخر الثقافي، الآخر الذي لا يزال يعاني من تبعات ما بعد الكولونيالية. كثرة العروض من القارة الأفريقية خير دليل على ذلك. وفي السياق نفسه، بالإضافة إلى العروض الإفريقية، يحضر عمل للمخرج سينمائي نيكولاس كلوتز، يتحدث فيه عن تجربة المخرج الألماني أوسترماير في مسرحية “هاملت في فلسطين”. هذا العمل المسرحي سبق أن عرضه أوسترماير في رام الله، بعد اغتيال صديقه المخرج المسرحي الفلسطيني جوليانو مير خميس.
عند الوصول إلى الصالة التي تقع وسط المدينة القديمة، حيث تعلو النقاشات بين الحاضرين عن دورة هذا العام، اكتمل جزء يسير من الصورة العامة في ذهننا حول المهرجان، خاصة بعد أن حدثتنا إحدى المشاركات عن عرض “عربات حرّة” للمخرجة ساندرا ايشيه التي تروي فيه اغتيال الشهيد سمير قصير وتتناول أهمية مشروعه “أورينت اكسبريس”. ويتضمن عرض ايشيه قراءات للواقع اللبناني، كما يحكي ثبات اللحظة التاريخية فيه. العرض الذي تقع أحداثه في العام 2030، يشبه حال لبنان اليوم. كذلك، وفي الحديث عن التحرّر، كان لا بدّ من عرض مسرحي يلامس الثورة السورية، فيحضر في مهرجان “أوف أفينيون” العرض المسرحي السوري “ولا شي”. العمل المأخوذ عن نص “لعبة القتل” ليونسكو، تصدّى لإخراجه المخرج المسرحي نوار بلبل، وسيعرض على مسرح الجيراسول في الثاني والعشرين من الشهر الجاري.
في مهرجان الـ”أوف” سيحكي السوريون عن ثورتهم، أي ضمن المهرجان الأكثر شعبية، البعيد تماماً عن الرسمية، حيث يعدّ فرصة ليجد المسرحيون مكاناً لعرض أخر أعمالهم. فمساء السابع من تموز، كانت المدينة تستقبل المشاركين في مهرجان الـ “أوف أفينيون”، ما يزيد عن العشرة آلاف مشارك، يعزفون ويرقصون بأزياء الشخصيات التي يلعبونها. كان الشارع الرئيسي في المدينة مسرحاً كبيراً، حيث الجمهور يستقبل المشاركين، ويتحدث معهم.
مهرجان “أوف أفينيون” يعيد للمدينة ألقها. يحيلها إلى مسرح كبير. يعيد المعنى لفكرة المهرجان، لتقترب أكثر من اليوتوبيا التي حلم بها فيلار. فطيلة أيام المهرجان، تجد المشاركين في مهرجان الـ “أوف”، يروّجون لأعمالهم، فيتجولون ليل نهار، يرتدون أزياء الشخصيات التي يلعبونها، يشغلون كافة الشوارع والساحات العامة. هكذا، لن يكون غريباً أن تجد مجانين تتشيخوف خارج عنبرهم يتحدثون مع الشرطي، أو أن تجد ياغو يشتري سندويشة كباب من المطعم المغربي. لكن الغريب تماماً، أن تجد صورة أنيقة لبشار الأسد وسط الشارع الرئيسي، حيث يقوم فيها بمصافحة ساركوزي، يحملها ممثل فرنسي، يرتدي زي حفار القبور، و يحمل بيده الأخرى فأساً حديدياً. وكان جوابه سريعاً عند سؤالي له عن سبب رفعه لصورة بشار: “أنا مثل ساركوزي، صديق لقاطعي الرؤوس أيضاً”.
المدن