بعد ثلاثة أعوام: عن المتشابه والفريد في المسألة السورية والحل المطلوب/ أحمد فيصل خطاب
لم يحدث في مسلسل الصراع بين الأنظمة والشعوب، وعبر التاريخ كله، ما حصل في سوريا في الأعوام الثلاثة الأخيرة. إنه الهول والرعب. شيء فريد في بابه على مستوى العالم .شيء ما شبيه به، إنما على مستوى أقل بكثير، حدث إبان الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت في الثلاثينيات من القرن الفائت، حين قام الجنرال فرانسيسكو فرانكو بقصف مدينة ‘غرينكا ‘ الإسبانية بالطيران مما أدى إلى مقتل نحو ثلاثة آلاف مدني، وتدمير أجزاء واسعة من المدينة .
لقد بقيت هذه الحادثة علامة فارقة في الحرب الأهلية الإسبانية حتى أن الرسام الإسباني المعروف ‘بابلو بيكاسو’خلدها في لوحة شهيرة تحمل اسم المدينة ‘غرينكا’.
وخلال الحرب الإسبانية التي دامت نحو أربع سنوات، وكانت بين الجمهوريين واليمينيين الفاشست، تداعت على إسبانيا جموع المتطوعين نحو المعسكرين المتصارعين، تماما كما حدث ويحدث في سوريا هذه الأيام: جموع غفيرة من المتطوعين من كل أنحاء أوروبا توجهت لدعم الجمهوريين، كان بينهم أسماء لامعة في الفكر والأدب العالمي: الروائي الأمريكي ‘آرنست همنغواي’، الروائي الإنكليزي’ جورج أورويل ‘والكاتب الفرنسي ‘أندريه مالرو’ والذي أصبح بعدها وزيرا للثقافة في حكومة الجنرال دوغول .
وعلى الضفة الأخرى في معسكر فرانكو والفالانج، كان هناك متطوعون كثر لكن من نوع آخر: أعداد تقدر مابين ثلاثين إلى خمسين ألفا من المحاربين المغاربة بقيادة عسكري يدعى ‘المارشال مزيان’.
كان أولئك محاربون أشداء، نشر الاعلام الفرانكوي بينهم أساطير كثيرة لدفعهم إلى القتال: مثل أن فرانكو رجل مسلم وان اليساريين والشيوعيين يريدون قتله لهذا السبب، حتى أن شاهدا ‘شاهد زور طبعا’ قال إنه رآه بأم عينه وهو يطوف حول الكعبة.
وكان ‘ الكوديو ‘ أو القائد ‘فرانكو’ لا يثق بأبناء جلدته من الإسبان، فكان حرسه الخاص كله من أولئك المغاربة، وبقي الأمر كذلك حتى وفاته عام 1975 .
ألا ترون معي هنا أوجه شبه كثيرة بين ‘ الكوديو ‘ الاسباني و’الكوديو السوري’ الذي لم يعد يثق بأبناء بلده، فأصبح معظم حراسه من الإيرانيين؟ وألا يذكركم ‘ المارشال مزيان ‘ بـ’المارشال نصر الله’ والأساطير لا بل الخرافات التي ينشرها بين أتباعه ليحثهم على القتال الى جانب النظام الأسدي الفاشي؟
لكن رغم بعض أوجه التشابه هذه بين الحالتين الإسبانية والسورية، إلا أن فارقا رئيسيا يفصل بين الحالتين: في إسبانيا كان الجنرال فرانكو هو الذي قام بانقلاب عسكري ضد حكومة منتخبة ديمقراطيا عام ستة وثلاثين، في حين أن الأمر في سوريا هو تقريبا على النقيض: ثورة شعب ضــد نظام بوليسي، ودكتاتورية عسكرية مسلطة منذ أكثر من أربعة عقود على رقاب الشعب، وإذا كان ما حصل في إسبانيا تم توصيفه على أنه حرب أهلية فإن ما حدث في سوريا هو انتفاضة شعبية تحولت إلى ثورة من أجل الحرية، حاول ويحاول بعض الأطراف، وفي مقدمتهم النظام الأسدي، تحويلها إلى حرب أهلية ولكنهم لم ينجحوا في ذلك حتى الآن، والأمل أن يكون مسعاهم البائس هذا على موعد دائم مع الفشل.
وفي النهاية ، وهذا هو الأهم ، رغم المتشابه والفريد نحن جميعا شهود اليوم على اندحار الفاشست الإسبان، رغم فوزهم المؤقت في الحرب آنذاك. لقد رحل الجنرالات، وعلى رأسهم فرانكو، إلى مزبلة التاريخ وبقيت خالدة أسماء مثل بيكاسو وبابلو نيرودا، الشاعر الاسباني الذي اغتاله الفرانكويون وانتصرت في النهاية قوى التقدم .
وإذا كانت تلك ومضات من التاريخ البشري هامة فتبقى من الماضي، لكن الأهم اليوم يبقى قراءة المشهد السوري قراءة صحيحة أي العكوف على الحاضر لاستشعار المستقبل .
الأبعاد الأربعة للمشهد السوري
البعد الأول يتمثل بالشعب: بعد أربعين سنة من التزييف والتضليل، من الفساد والاستبداد والارتداد، انطلق المارد السوري فجأة كبركان ثائر، في اندفاعة حيوية زجت بمئات الآلاف من السوريين في الشوارع على شكل انتفاضة شعبية مطالبة بالحرية والعدالة، انتفاضة تحولت إلى ثورة سلمية، ثم إلى ثورة ‘نصف سلمية نصف مسلحة’.
وكان الجواب من قبل النظام منذ البداية وحتى اليوم : محاولة إخماد هذه الثورة بالبطش الجماعي والحديد والنار .
ولكن رغم كل المآسي والتضحيات ورغم مرور أكثر من ثلاثة أعوام، ما يزال الشعب السوري يرفض الإذعان، يرفع راية العصيان، مصمما على أخذها، باللطف أو بالعنف، هكذا فعل أجداده الثوار .
لم يرفع أحد الراية البيضاء في سوريا، ولا يزال التصميم الأسطوري للشعب هناك على نيل الحرية، رغم كل التضحيات والدماء، يثير دهشة العالم، ما يمكن أن نطلق عليه، ودون مبالغة: المعجزة السورية .
البعد الثاني يتعلق بالنظام : يتميز هذا النظام الاسدي بأنه فريد في بابه بين كل الأنظمة العربية وحتى بين أنظمة العالم الثالث .
لسنا هنا أمام ديكتاتورية تقليدية مثل الديكتاتورية في تونس بن علي، وأختها في مصر مبارك ويمن صالح، إن الأمر يتعلق بشيء أبعد من ذلك وأخطر بكثير .
تلك الدكتاتوريات، حين انهارت بقيت وراءها، رغم الجروح والخسائر، الدولة والوطن والشعب. أما في سوريا فإن النظام الحالي، أدى ليس إلى تشويه ومسخ لماضي البلاد، وإنما عمليا يحاول أن يقوم بعملية ذبح من الوريد إلى الوريد للحاضر، والأخطر للمستقبل السوري .
وفي معرض الحديث عن المستقبل كانت المعادلة القاتلة لهذا النظام وخاصة في السنوات الأخيرة تقوم على ثلاثية مدمرة :
أ_ الاعتماد على العصبية في الداخل وتحطيم الوحدة الوطنية.
ب_على السياسة السورية في الخارج حفظ الأمن الاسرائيلي طيلة أربعين عاما.
ج_ دعم النفوذ والهيمنة والنزعة التوسعية الايرانية على حساب العالم العربي .
هذه الثلاثية التدميرية سوف تحول سوريا، اذا ما استمرت الى أطلال .
منذ أكثر من مئة عام قام مفكر سوري معروف بتشخيص دقيق له في كتاب له شهير: ‘طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد’.
يقول عبد الرحمن الكواكبي، وكأنه يعاين رأي العين الأوضاع الحالية في سوريا ومصير النظام الحالي: ‘ فنـــــاء دولة الاستبداد لا يصيب المستبدين وحدهم، بل يشمل الدمار الأرض والناس والديار. لأن دولة الإستبداد في مراحلها الأخيرة، تضرب ضرب عشواء كثور هائج، أو مثل فيل ثائر في مصنع فخار، وتحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال. وإنها لا ريب إلى زوال .
البعد الثالث يتعلق بالمعارضة التقليدية والمحدثة والحراك الثوري : لقد انتقلت الثورة السورية بالشعب وقوى الحراك الثوري من الأحادية إلى ما يمكن وصفه ‘بالتذررية’ بدل التعددية المتوازنة التي تقوم عليها الديموقراطيات الحديثة ولا نزال نحن في هذه المرحلة . أما بالنسبة لهياكل المعارضة الجديدة التي نشأت بعد اندلاع الثورة، يمكن القول دون خوض في التفاصيل أن أداءها الإعلامي والسياسي لم يكن على مستوى بطولات الشعب وتضحياته، ولم يشكل الرد المناسب على جرائم النظام مع بعض الاستثناءات . لقد كان أداء متواضعا، مبلبلا مرتبكا، وحتى متناقضا. ولا يزال يسود فيه شيء من الشرذمة. الصورة ذاتها في قوى الحراك الثوري والمقاومة المسلحة.
اما البعد الرابع فهو البعد الاقليمي والدولي : لم تكن المفاجأة هنا من خصوم الشعب السوري: لا أحد عاقل ينتظر أن تقف إسرائيل أو روسيا أو إيران مع ثورة هذا الشعب . المفاجأة أتت وما تزال مما سمي كناية وتورية: ‘بأصدقاء سوريا’وفي مقدمتهم طبعا الولايات المتحدة . واضح هنا ، لكل مبتدئ في السياسة أن أمريكا وفي تناغم ضمني مع إسرائيل لا تريد أبدا أن تتوج الثورة الوطنية الديمقراطية في سوريا بالنصر لأنها بكل بساطة ستغير وجه الشرق وكل التصريحات والمواقف اللفظية الامريكية لم تكن الا لذر الرماد في العيون .
نحن إذا أمام أوضاع استثنائية في سوريا، وأمام مثل هذه الأوضاع لا بد من رجال استثنائيين يتصدون لحلها، أو على الأقل يقومون بجهود استثنائية، تتوفر فيهم شروط، المناقبية العالية والكفاءة والعمل بصدق وإخلاص وتفان مع الاستعداد لبذل كل التضحيات حتى الموت في سبيل خلاص الشعب من محنته .
لا بد من العودة إلى النبع، إلى النهر الثوري العظيم المتمثل بقوى الحرية، وتوحيد الساحات الرئيسية: الساحة السياسية، الساحة المسلحة أو العسكرية، الساحة الإغاثية، والساحة الدبلوماسية الدولية، والعمل على توحيد طاقات الشعب السوري في الوطن والمهجر، وهي طاقات هائلة مادية وفكرية وسياسية وبشرية .
لا بد من نفخ روح جديدة في الثورة السورية . والبداية هي توحيد كل القوى الوطنية الديمقراطية ضمن صبغة جبهة وطنية ديمقراطية تحت راية ‘الاتحاد ضد الاستبداد’، ضد الاستبداد الرئيسي المتمثل بالنظام الأسدي وكذلك ضد أشكال الاستبداد الأخرى التي برزت على هامش الثورة .
يعرف القائد النقابي واليساري الايطالي أنطونيو غرامشي الأزمة بأنها ‘بالتحديد تتمثل في أن العالم القديم يموت وأن العالم الجديد لا يتمكن بعد من الولادة، وفي هذا الفاصل الزمني الرمادي ، نشهد نشوء ظواهر مرضية عديدة ومتنوعة’.
فأي رجل أو رجال في سوريا سيتمكنون أخيرا من إطلاق رصاصة الرحمة على العـــــالم القديم ‘النظام القديم’ وانجــاز ولادة العالم الجديد القائم على الحرية والكرامة والعدالة والإنسانية !
‘ كاتب واعلامي سوري
القدس العربي