صفحات سوريةعمر قدور

دستور الوداع!


عمر قدور

ليس من فائدة تُذكر إن أردنا مناقشة الدستور السوري الذي أُقرّ بتاريخ 26/3/ 2012 بالجدية التي ينبغي أن يناقش بها حدث كهذا، إذ لا طائل من بيان أن نصوصه تنتمي برمتها إلى ما قبل سنة من الآن على الأقل، أي قبل انطلاق الثورة السورية. من جهة أخرى؛ لا قيمة فعلية للدستور سواء أبقي النظام في الحكم أم سقط، لأن سقوط النظام يعني حتماً إقرار دستور جديد لسوريا الجديدة، أما فرضية بقاء النظام فتعني الاستمرار بمسيرته السابقة حيث لا يساوي الدستور على علاته، ولا القوانين الأخرى، الحبرَ الذي استُخدم في كتابتهما. إذ لم يسبق أن عُرف عن النظام احترامه حتى للقوانين التي يصدرها، فهو يلغيها أو يعدّلها متى استدعت حاجته، ومن المعلوم أن تعديل الدستور السابق استغرق إصداره أقل من نصف ساعة متيحا للرئيس الحالي وراثة الحكم.

مع ذلك ثمة فائدة للدستور الجديد، من حيث أنه يفضح العقلية التي وراءه، بدءاً من تشكيل اللجنة المناط بها كتابته وانتهاء بإقراره بصيغة “نعم أولا” من دون إفساح المجال لمناقشته على المستوى السياسي أو من قبل ذوي الاختصاص القانوني. بعنجهية وصلف يريد النظام القول إنه غير قابل للتغيير مطلقاً، وإنه ما يزال قادراً على فرض إرادته وكسر إرادة الشعب، ولا يضيره أن يخرق كافة القواعد المعمول بها في العالم لضمان نزاهة العملية الانتخابية. فعلى مستوى الشكل سُمح لأي شخص بالاستفتاء في أي مركز يشاء، ودون وجود آلية للتأكد من أنه قد سبق له ممارسة حقه في مركز آخر، خاصة أنه سُمح بالاستفتاء بواسطة كافة الوثائق التي قد تكون بحوزة المقترع كالبطاقة الشخصية وجواز السفر والبطاقة النقابية والبطاقة الجامعية والبطاقة العسكرية وشهادة القيادة ودفتر الخدمة العسكرية، أي يستطيع مَن يشاء استخدام كل من الوثائق المذكورة فيمارس حقه مرات عديدة، هذه الاستهانة وحدها كافية لا للطعن بالنتائج وإنما للطعن بأهلية النظام ككل، النظام الذي لا يظهر أدنى اكتراث حتى بالشكليات.

في الواقع لم يكن هناك ترقب إزاء نتيجة الاستفتاء بما أنها مقررة سلفاً. كان ثمة فضول متواضع لمعرفة النسبة التي قررها النظام مسبقاً لنجاح دستوره، والتي سيعلن عنها بعد مسرحية الاقتراع. ولم يكن مستغرباً أن حوالى 90% من المشاركين قد أجابوا بنعم، فما يثير الاستغراب حقاً هو الإعلان عن نسبة 9% ممن لم يوافقوا على الدستور في ظل مقاطعة الرافضين له للعملية ككل!. ومع أن محطة تلفزيونية موالية أشارت إلى الإقبال الكبير على مراكز الاقتراع، خاصة في مدينة حمص التي يتعرض بعض أحيائها للقصف وبعضها الآخر للحصار، إلا أن لمسة حياء غريبة تسللت إلى النتائج فاكتفى النظام بالقول إن حوالي 57% ممن يحق لهم المشاركة قد شاركوا فعلاً، طبعاً دون إشارة إلى أن من يحق لهم المشاركة قد تناقص عددهم الحقيقي من ساعة إعداد اللوائح حتى ساعة الاقتراع بحكم أعمال القتل اليومية النشطة، هذا إذا لم نأخذ بالحسبان حملات الاعتقال وعشرات الآلاف من المعتقلين!.

لن نذهب إلى الربط بين موعد إعلان النتائج ومرور سنة بالضبط على اعتقال أطفال درعا، أولئك الذين خطّوا على حائط مدرستهم عبارات تدعو إلى إسقاط النظام، فالأرجح أن رمزية هذا اليوم لم ترد في بال رجالات النظام الذين لا يرون في اعتقال الأطفال أو اقتلاع أظافرهم فعلاً غير اعتيادي. النظام يتصرف كأن كل شيء على ما يرام، وكأن إقرار الدستور تحت قصف المدافع شأن طبيعي، بل حتى أن إقالة حزب البعث الذي حُكم باسمه لأربعة عقود أمر لم يتطلب مجرد تنويه أو تبرير كما يشير إلى ذلك الكاتب السوري ياسين الحاج صالح!. على هذه الشاكلة لا يعدو الدستور الجديد سوى “تقشير” للدستور القديم من لزوم ما لم يعد يلزم، أي تخليصه من الشرعية الثورية المدعاة باسم حزب البعث، والانتقال بلا مواربة إلى حكم الفرد الأوحد مدعوماً بما لا ينص عليه الدستور من قوى أمنية واحتكارات اقتصادية تهيمن على مجمل مقدرات البلد.

في الدستور السابق أنيطت كافة الصلاحيات بالرئيس، باعتباره ممثلاً لحزب البعث القائد للدولة والمجتمع بموجب المادة الثامنة منه، وفي الدستور الجديد كُرّست صلاحيات الرئيس بمنأى عن القيم الأيديولوجية السابقة. فلم يعد الرئيس بحاجة إلى تلك المنظومة القيمية لتسوق له إعلامياً. لقد أصبح قيمة عليا بحد ذاته وصار مالكاً مطلقاً للدولة التي أبقي على تسمية نظامها بالجمهوري دون أن تنال من اسمها أدنى نصيب. بدءاً من الأهم، بقي الرئيس هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ولعلنا نذكر أن أول منصب تسلمه الرئيس الحالي بعد وفاة والده هو قيادة الجيش في خرق للدستور السابق أيضاً. والرئيس بموجب الدستور الحالي هو الذي يعين الموظفين المدنيين والعسكريين وينهي خدماتهم، ويمكنه حل مجلس الشعب، ويتولى التشريع خارج دورات مجلس الشعب وأثناء انعقاده أيضاً، وله الحق بالاعتراض على القوانين التي يصدرها مجلس الشعب. وقبل ذلك هو الذي يعين رئيس الوزراء والوزراء ونوابهم ويقبل استقالاتهم أو يقيلهم، وهو يحيلهم إلى المحاكم أيضاً، وهو الذي يعين السفراء لدى الدول الأخرى، وهو الذي يرأس مجلس القضاء الأعلى، وهو الذي يسمي أعضاء المحكمة الدستورية.

بعد أن نفد صبر قارئ الصلاحيات السابقة لا بد من الوصول إلى النقطة الأهم التي تلاقي ما يحدث حالياً على الأرض، وهي أن الرئيس غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها أثناء مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى. إننا هنا أمام إباحة مطلقة للرئيس، فهو يفعل ما يشاء ويستغل سلطاته العسكرية والمدنية كما يهوى، ما دام لم يرتكب جرم الخيانة العظمى الذي يجب أن يقره ثلثا أعضاء مجلس الشعب؛ المجلس الذي يحق أيضاً للرئيس حله!. على نحو خاص؛ الرئيس غير مسؤول عن الانتهاكات التي حدثت في سوريا منذ سنة حتى الآن، وكل الانتهاكات التي سيستمر ارتكابها حتى إشعار آخر، حتى إن كان هو من أعطى الأوامر المباشرة لذلك.

ما لا ينص عليه الدستور هو الأجهزة الأمنية التي تساند صلاحيات الرئيس وتدعم قوته المطلقة دستورياً، هذه الأجهزة التي كان السبب الرئيسي لثورة السوريين منذ سنة إلى الآن، والتي نكلت بهم أبشع تنكيل وأوقعت آلاف القتلى بمن فيهم مئات الأطفال. لم ينتفض السوريون من أجل تعديل أو إلغاء مادة في الدستور، لقد ثاروا ضد الاستبداد الأمني الذي يحمي كافة الانتهاكات الأخرى، أما الدستور الذي يريدونه فيبدأ من شعارات الحرية التي خطها أطفال درعا على جدران مدرستهم، فتولت أنياب المخابرات اقتلاع أظافرهم عقاباً لهم، وجاء إعلان الدستور الجديد في ذكرى اعتقالهم تكريساً لسلطة بأنياب وشعب تُقتلع أظافره وحناجره.

لا شيء تغير بين الدستور القديم والجديد، فالجديد يرث القديم بجوهره تماماً، وما يريد النظام قوله من خلال الدستور إنه باق كما هو، والموالون الذين صوتوا غير مكرهين بنعم صوتوا على بقاء النظام كما هو، صوتوا بنعم على قصف المدن والقرى والبلدات بالمدفعية والهيلوكبتر.هذا هو المضمر الذي ينطوي عليه الاستفتاء، أما الدستور فليس سوى ذريعة أو واجهة للقضاء على الحياة الكريمة التي تكفلها الدساتير عادة. إنه نص يُلقب بالدستور، ويُراد به تأبيد النظام القائم في تجاهل صفيق لإرادة السوريين، وأيضاً في تجاهل استحالة تطبيقه أو فرضه. إنه بالأحرى دستور الوداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى