بماذا يفكر القنّاص؟: راتب شعبو
إلى كل ضحايا القنص الأبرياء
بماذا يفكر القناص في منعزله العالي وهو يقطع طريقاً؟ أو يعمل على نشر الرعب في منطقة ما، فيقتطع من حيوات أهاليها نصيباً بين حين وحين؟ وما هي معايير اختياره للضحية؟ وما هي حدود حريته في انتخاب الضحية؟ بماذا ينشغل بين قنص وآخر؟ هل يشعر بالضجر بين موت وموت؟ وهل ترسم له مخيلته ملامح أليفة لحياة ضحيته فيطال الحزن قلبه؟ هل يتخيل مثلاً أن الرجل الذي أودع رصاصة في رأسه قبل قليل كان في طريقه لتدبّر أمر إطعام عائلته، فيؤلمه هذا الخيال بعد أن تكون قد سبقت الرصاصة العذل؟ هل يقطّع الوقت بتخيّل وقع ما فعله منذ قليل على أهل الضحية؟ هل يدهمه عويل أمّ أو زوجة؟ وهل يتصور بكاء طفل يشعر بخسارة غامضة أمام بكاء أمه وصراخها؟ أم أنه يحس بسعادة في القتل أو بفخر في المهارة؟ هل يجد متعة في امتلاكه هذه القدرة على إطفاء شمعة حياة وإحداث تحوّل كارثي في مصير عائلة؟ هل حدث مثلاً أن ركّز دائرة موته على شخص ما، ثم خطر له أن يعدل عن قنصه وأن “يهبه الحياة”؟ أم أن روتين فعله اليومي يقتل لديه مثل هذه “المتعة”؟ هل يحدث له أن يستعرض في ذاكرته طرفةً ما ويضحك “في عليائه” كما يضحك أيّ شخص يتذوق طعم الحياة؟ ألا يشتاق لما له من أطفال أو زوجة أو أهل؟ وكيف يتجاور لديه شوقه “الطبيعي” هذا مع استعداده “الشاذ” لقتل أناس لا ذنب لهم سوى أن حظّهم العاثر قادهم إلى الدخول في دائرة استهدافه؟
ربما تشكل المسافة البعيدة بين القاتل والمقتول راحة لضمير القنّاص. فهذه المسافة تحمي عينيه من نظرة عيني ضحيته وتجعل للتأثير اتجاهاً واحداً فقط. المسافة البعيدة تجرد الضحية من سلاحها، وتحرم براءتها من كل دور يمكنها أن تلعبه. للبراءة فرصة في أن تعدّل أحياناً من مزاجية المعتدي، وتعدل تالياً من قراراته وأفعاله. وقد تنقذ البراءةُ حياةً حين تكون الحيوات عرضة للتلف كالأشياء المتراكمة والفائضة عن الحاجة. البراءة قد تنقذ حياة طفل عارية من كل حماية مثل سلحفاة بلا قوقعة. فقد تتغلب البراءة على العدوانية إذا أتيح لها أن تخترق عيني المعتدي. غير أن القنّاص يبقى في منأى من هذا التأثير، وتبقى عدوانيته محصنة أو حرة من مفعول المفاعيل المضادة. تتشابه ضحايا القنّاص ضمن دائرة الموت التي تتوسطها إشارة صليب متساوي الأذرع. ربما كان لشبهٍ ما بين الضحية وأحد أصدقاء القنّاص أو أقاربه تأثير في صون حياة الضحية. أو لعل ابتسامة عادية على وجه الضحية الغافلة أن تمتصّ سواد القدر الذي يرسمه لها القنّاص. غير أن ضحاياه تتشابه في ملامحها العامة التي تبقى عامة، فالقنّاص لا يعرف وجوه ضحاياه. تتشابه ضحايا القنّاص في غفلتها عن موتها الوشيك. وتتشابه في الوظيفة التي يختارها لها، وهي أن تمنحه حياتها من دون إرادة منها، وتموت. تلك هي وظيفة الضحية في عيني القنّاص. وتلك دائرة لا بدّ أن تكتمل بين قاتل وضحيته.
كان يمكن كلمة تقولها الضحية أن تعدّل في المصير الذي ينتظرها لو كانت المسافة قريبة. وكان يمكن قرب المسافة أن يجعل القنّاص يحتسب لصوت ألم الضحية واستغاثتها، فيحجم قليلاً. غير أن المسافة بعيدة والسلاح قادر على طيّ هذه المسافة التي لا تستطيع الأذن ولا العين أن يطوياها. هكذا يجمع القنص بين الدقة والعشوائية، فيكون دقيقاً إلى حد يتيح زرع الرصاصة في جبين الضحية أو في عينها، وعشوائياً إلى حدّ التشابه بين الضحايا. من حياة القنّاص يتدفق الموت على الضحايا. حياة توزّع الموت، هذه هي حياة القنّاص الذي صاغت منه أسوأ خلطة ممكنة من الأخلاق والسياسة والتكنولوجيا، إلهَ موتٍ حديث.