مراجعات كتب

فلاحو سورية – أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم/ خالد غزال

 

 

بعد كتابه «الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق»، صدرت الترجمة العربية لكتاب حنا بطاطو عن سورية في عنوان «فلاحو سورية، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم». تكمن أهمية الكتاب في المساعدة على فهم المرحلة الراهنة من تطور سورية والعوامل الداخلية المؤثرة في الحرب الأهلية الدائرة. يستخدم بطاطو المنهج نفسه الذي اتبعه في كتابه عن العراق، حيث يعود إلى الجذور التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في دراسته وتحليله لطبيعة السلطة السياسية القائمة وكيفية تشكلها. يغوص في أعماق البنية السورية، فيسلط الضوء على الجوانب العقائدية والمذهبية لمكونات الشعب السوري، إضافة إلى اعتماده مراجع عربية وأجنبية في تحليله، فهو يلجأ إلى مقابلات مباشرة طاولت فئات متنوعة من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين إلى مواطنين عاديين من الأرياف السورية. نُشر الكتاب أصلاً بالإنكليزية، وترجمه عبدالله فاضل ورائد النقشبندي، وراجعه ثائر ديب، وصدرت الترجمة عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في بيروت.

الظروف الاجتماعية والاقتصادية

لعل إحدى الظواهر البارزة كانت ازدياد نمو السكان في سورية في النصف الثاني من القرن العشرين، والمتمثل أساساً في زيادة أعداد الفلاحين والمزارعين، وهي ظاهرة ارتبطت أساساً بنمو الزراعة وازدهارها وانخفاض أعداد الوفيات. يميز بطاطو بين الفلاحين المسالمين والفلاحين من أصل محارب، فيمكن وضع فلاحي الغوطة وحوران وأهل العود في إدلب وعلويي السهول في فئة الفلاحين المسالمين. «أما الفلاحون الأكثر استقلالية والأقل تحملاً للظلم والأميل إلى تجاهل الإجراءات المتضاربة مع مصالحهم، أو إلى تحديها، فهم الفلاحون الذي كانوا يوماً بدواً، والذين يمثل مزارعو حوض الفرات والجزيرة – المنطقة الواقعة بين نهري الفرات والخابور – مثالاً جيداً عليهم. لكن، لعل أقوى الفلاحين في حبهم للحرية والأصعب تطويعاً سياسياً هم فلاحو الجبال، وأبرزهم علويو الجبال والدروز».

كما يتمايز فلاحو سورية بالمعنى الديني، يرى بطاطو أن الجماعات الأقل أهمية بالمعنى العددي هم الإيزيديون الناطقون بالكردية، والإسماعيليون والشيعة الإمامية الاثني عشرية. يأتي بعد ذلك في الوزن العددي الدروز، بعدهم يأتي المسيحيون. يفوق عدد الفلاحين العلويين عدد المسيحيين، لكن الكتلة الأكبر تتشكل من السنّة، وهم منتشرون في جميع المحافظات السورية. في المقابل، يمكن توزيع الفلاحين السوريين إلى فلاحين ذوي روابط عشائرية متفاوتة القوة، أو إلى ذوي روابط عشائرية مفككة. كما يوجد فلاحون غير قليلي العدد فقدوا كل آثار العشائرية، ويرتبطون فقط على أساس إقليمي.

يمكن التمييز بين الفلاحين على أساس الاقتصاد، فهناك من يملك الأرض وهناك من لا يملكها. لكن الغلبة هي لتشابك بين الملاك الكبار والمتوسطين والصغار، أو بين ملاك الأرض الذين لديهم مصدر ماء وأولئك الذين لا يزالون يعتمدون على الظروف المناخية المتقلبة، أو بين ملاك الأرض الأغنياء مالياً، وأولئك الذين لا يملكون رأسمالاً فقط. «لا يعني الحرمان من ملكية الأرض بالضرورة العجز الاقتصادي، فمن بين الأشخاص ذوي الأهمية المتزايدة في الحياة الزراعية السورية بعد عام 1973 المستثمر الذي لا يملك الأرض في الأغلب، بل يؤجرها أو ببساطة يأتي برأسماله على شكل مال وآلات حديثة للقيام بالإنتاج».

أدى وصول العسكريتاريا إلى السلطة، خصوصاً منها العناصر العسكرية من أصل فلاحي، إلى تغيير في طبيعة العلاقات القائمة بين الفلاحين ومالكي الأراضي. فقبل إعادة تنظيم ملكية الأرض ومعها العلاقات الزراعية التي حصلت في ستينات القرن الماضي، لم تكن الكتلة العظمى من حارثي الأرض تكسب إلا ما يزيد قليلاً على الكفاف. وكان الفلاحون (العدد الأكبر منهم) يعملون بصفتهم محاصصين أو مستأجرين قانونياً، لكن وفق مشيئة المالك الذي كان بمقدرته إبعادهم عن الأرض متى شاء. قدمت فترة حكم البعث تطويراً فعلياً في وضع الفلاحين السوريين، سواء من حيث تحسين الدخل أو المساعدات الحكومية في مجال تقديم وسائل الزراعة، وفي تخفيف الضرائب، والأهم كان في كهربة الريف السوري، وانتشار شبكات المياه الآمنة، وتوسيع الرعاية الصحية الريفية، وتطور وسائل الاتصال والنقل، وتكثيف الجهد التعليمي للدولة.

أنماط الوعي السياسي الفلاحي قبل البعث

يشير بطاطو إلى أن الفلاحين البستانيين في سورية كانت لهم تنظيماتهم المهنية منذ القرن الثامن عشر زمن الحكم العثماني. كانت روابطهم التنظيمية في جوهرها روابط محلية أكثر منها على مستوى سورية بأكملها. «فتجربة الفلاحين البستانيين التنظيمية الطويلة تفسر قدرتهم المميزة على حماية مصالحهم أو مقاومة عسف ملتزمي الضرائب أو إلحاحهم، وهي خاصية تميزهم عن معظم الفلاحين الآخرين. كما حقق مالكو الأرض من بينهم نجاحاً خاصاً في حماية الحقوق المائية القديمة المرتبطة ببساتينهم». أما في السياسة، فإن الحزب السياسي الأول ذا التوجه الفلاحي وهو «الحزب العربي الاشتراكي» الذي خرجت نواته الأولى إلى الحياة عام 1943 في حماة، استمد قوته الأساسية في تلك المدينة من الفلاحين البستانيين.

ازدهرت الصوفية في حياة كثيرين من فلاحي سورية قبيل الحرب العالمية الأولى، ولم يسبق لأي حركة أن قامت بالدور الذي لعبته الصوفية في سلوك الفلاحين. ازدهرت الصوفية في بعض الفترات الزمنية فدعمت الإيمان المسيطر، ولكنها في مراحل أخرى أضعفته، بل وابتذلته. يقدم بطاطو وصفاً لهذه الحركة بإيجابياتها وسلبياتها فيقول: «فيها رجال أتقياء ومثاليون، وفيها نصابون ومشعوذون ومرقصو أفاعي. ألهمت القناعة والسلبية والجبرية، ولكنها في مفاصل معينة، تحدت السلطة، وحضّت الرجال على الثورة. رفضت في أعلى تجلياتها الدنيوية، وسعت إلى أن تبعد عن عقول المتمسكين بها كل فكرة عدا تلك المتعلقة بكائن أسمى فوق الطبيعة، كما سعت إلى أن تفصلهم عن أي مشاعر تتعلق بتحقيق الذات، لكنها كثيراً ما أخضعت الضعف الإنساني لغاياتها، وسعت إلى السلطة والأغنياء وكسبتهم. ولم تمد جذورها بين الفلاحين إلا في أكثر أشكالها غرابة وبعداً عن الانضباط، وكانت بلا شك عاملاً بارزاً في انتشار الخرافات قبل الإسلامية القديمة في الريف، أو إعادة تقويتها، من مثل الإيمان بالسحر والتعاويذ والمعجزات. كما روجت الولاء للأولياء أو «أحباب الله» ضاربة حولهم هالة من القداسة، ومحولة قبورهم إلى مواضيع للتبجيل ومراكز للحج».

يميز بطاطو بين الفلاحين من أبناء الجبل وغيرهم من أبناء السهول، فيعزو إلى أهل الجبل النزوع إلى التمرد، فيما يهيمن على فلاحي السهول النزوع إلى «طرق الدفاع غير المباشر». ففلاحو سهول حوران، على سبيل المثال، كانت لديهم نظرة ترى أن مواجهة أعدائهم بالقوة ليست خياراً مجدياً لانعدام الكفاءة والقدرة في وجههم. «فإذا ما لجأوا إلى العنف كان ذلك بمنزلة ملاذ أخير ونتيجة يأس تام. وكانت القاعدة في الالتفاف على مصاعبهم أن يلجأوا إلى طرائق قائمة على الصبر أو الحذر». أما فلاحو الجبال، فقد اختلفت ردود أفعالهم عن فلاحي السهول. تميزوا ببراعة في استخدام الأسلحة وميلهم إلى الإغارة أو المقاومة المسلحة ضد الحكومة. كما شكلوا جماعات مغلقة نسبياً وذات تقليد طويل من الاستقلال الذاتي، كالدروز في جبل العرب الذين انخرطوا في الثورة السورية الكبرى بين أعوام 1925 – 1927. كما تحدى الفلاحون العلويون الحكومة القائمة ورفعوا السلاح في وجهها في عدد من المرات.

منذ مطلع القرن العشرين، شكل انتشار الفكر الشيوعي وتأسيس الحزب الشيوعي السوري – اللبناني أحد عناصر الفعل والتأثير بين الفلاحين. صحيح أن بداية التأسيس في عام 1924 كانت ذات توجه عمالي، لكن سرعان ما تطلع الحزب إلى تنظيم الفلاحين في عام 1925 في نقابات واتحادات فلاحية. يشير بطاطو إلى المراحل الأولى من عمل الشيوعيين في أوساط الفلاحين وأهدافهم بالقول: «كان للجذور الريفية لمعظم الشيوعيين البارزين الأوائل أثر في جعلهم ذوي حساسية تجاه مشكلات الفلاحين وظروفهم واتجاهات مشاعرهم ورغباتهم العميقة. ففي برنامجهم الزراعي بتاريخ 7 – 7 – 1931، أقر الشيوعيون بوضوح بأن فلاحي سورية مظلومون أكثر من غيرهم من باقي عناصر الشعب، ودعوا بإيجاز إلى تجريد «الأغنياء» من سيطرتهم على الينابيع الدائمة، وجر المياه إلى القرى كلها، وإلغاء السخرة، وإلغاء الديون كلها التي يدين بها صغار الفلاحين وإعفائهم من العشر وغيره من الضرائب، وتأمين حد أدنى من الأجر، وساعات عمل أقل وضمان اجتماعي للعمال الزراعيين، ومصادرة أراضي كبار الملاكين والمزارعين الأجانب والبعثات الدينية، وتوزيع عقاراتهم وأراضيهم على الفلاحين والفقراء». لم يحقق الشيوعيون سوى نجاح قليل بين الفلاحين، وكان معظمه بين الفلاحين المسيحيين، وكان من جملة الأسباب هيمنة الصوفية وتقديس الأولياء وسيطرتها. لكن الحزب الشيوعي تعرض لنكسة في الريف والمدن بعد أن وافق الاتحاد السوفياتي على تقسيم فلسطين، وما تبع ذلك من حظر لنشاط الحزب، وتخلي عدد كبير من الأعضاء عن عضويتهم، حيث انتسب قسم أساسي منهم للحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني.

يعتبر «الحزب العربي الاشتراكي» عملياً حزب الفلاحين والمزارعين الأول في سورية. وهو تأسس في منتصف القرن العشرين. يصفه بطاطو بأنه «مهّد الدرب أمام تركيز الاهتمام على الفلاحين وتأكيد الأهمية الحاسمة لمشكلتهم في حياة المجتمع ككل. واتخذ أيضاً خطوات حاسمة في تحرير أعداد كبيرة من أفقر فئاتهم في وسط ســورية من الإحساس المخدّر بالجبرية الموروث من الأفكار الصوفية القديمة، وتحويلهم من كتلة سائبة مفككة إلى طبقة متماسكة نسـبياً ذات أهداف واعية ومحددة إلى هذه الدرجة أو تلك. وفوق ذلك، وضع هذا الحزب حداً لعزلتهم عن التيار السائد في الحياة السياسية السورية، وشق الطريق، مادياً ونفسياً، أمام التغيرات العميقة في ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية التي أجراها نظام البعث». لعل قدرة أكرم الحوراني على كسب اهتمام الجماهير الفلاحية وتعاطفها، كانت من العوامل المهمة التي جذبت البعثيين إليه، وهو ما قاد إلى اندماج الحزبين في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1952.

ينزع بطاطو عن حزب البعث طابعه الموحد، فيقول: «لم تكن «البعثية» في تاريخ سورية الحديث قوة واحدة تفعل فعلها باتجاه واحد أو تحت تأثيرات متماثلة، بل كانت غطاء لتشكيلة من العناصر التي ينبغي التمييز في ما بينها أولاً وقبل كل شيء. في الحقيقة، لم يكن هناك حزب بعث واحد، بل ثلاثة أحزاب كانت، على رغم ترابطها المعقد، متمايزة تماماً بقاعدتها الاجتماعية، وإطارها الذهني، واستجاباتها الطبيعية، وخصال أعضائها وقيادتها، والمصالح التي خدموها». فالبعث القديم لم يضرب جذوره في القرى، فعندما عقد مؤتمر الحزب الأول عام 1947، لم يكن فيه سوى «عامل واحد ومزارع واحد» بين المشاركين البالغ عددهم 217.

ستشكل مرحلة الستينات من القرن الماضي تحولاً في القاعدة الاجتماعية للبعث، حيث ستشهد صعود الوجهاء الريفيين أو القرويين الأقل شأناً وترييف الجيش، وإلى حد ما بيروقراطية الدولة. يشير بطاطو إلى أن المجموعة الداخلية من اللجنة العسكرية بين أعوام 1960 و1965، كانت بكاملها من القرى والبلدات الريفية. يقول بطاطو: «إنه لأمر ذو معنى أن أربعة من الأعضاء الخمسة في المجموعة الداخلية من اللجنة، وعشرة من أصل أعضائها التسعة عشر جميعاً كانوا من طبقة الوجهاء الريفيين أو القرويين المتوسطة والأقل شأناً، ولم يأت أحد منهم من طبقة المحاصصين أو العمال الزراعيين المحرومين من ملكية الأرض». كانت وفرة الضباط الذين تعود جذورهم إلى طبقة الوجهاء الريفية أو القروية الأقل شأناً في اللجنة العسكرية، انعكاساً لحقيقة أن هذه الطبقة كانت في حال صعود اقتصادياً واجتماعياً في العقود القليلة السابقة. كما كانت إحدى نتائج سياسات الانتداب الفرنسي الذي قسم سورية إلى كيانات ذات أساس ريفي كدولة العلويين ودولة الدروز.

في الفترة التي تلت انقلاب عام 1963، نجح أعضاء اللجنة العسكرية البارزين الذين استلموا السلطة، في تحويل سلك الضباط والقوات المسلحة وبيروقراطية الدولة تحويلاً أساسياً إلى مؤسسات ذات صبغة ريفية أو قروية قوية. هكذا، شهدت عملية التطهير وعملية الترييف التي رافقتها كثافة خاصة في القوات المسلحة. لعل إحدى السمات المهمة في عملية الترييف الكثيف للقوات المسلحة، كان في صعود الضباط العلويين إلى أعلى مراتب السلطة، مقابل هبوط في العنصر العسكري السنّي الحضري. يتساءل بطاطو عن السبب الذي جعل السيطرة الحاسمة للعسكريين العلويين على القوات السورية المسلحة ممكنة، على رغم أن عددهم كان أقل بكثير من السنّة قبل عام 1963، فيقول: «إن صعود العلويين إلى الهيمنة في سلك الضباط هو في النهاية ما أكد سيطرتهم الحاسمة على القوات المسلحة. وما عمل لمصلحتهم في هذا الخصوص، أكثر من أي أمر آخر، هو أنه في حين كان الضباط العلويون في غالبيتهم الساحقة من أصول ريفية ومنبت قروي وأبناء منطقة واحدة، وذوي انتماء بعثي بعد عام 1955، كان الضباط السنّة منقسمين انقساماً لا براء منه سياسياً وإقليمياً وطبقياً». في المقابل، وداخل أجهزة الدولة المدنية، ترافق تدفق العناصر الريفية الكثيف إلى سلك الضباط والقوات المسلحة تدفقاً أكبر إلى بيروقراطية الدولة. ينقل بطاطو هذا القول عن سامي الجندي الذي كان وزيراً للإعلام: «بدأت قوافل القرويين مُذ ظهر الحزب على المسرح تترك القرى والسهول والجبال إلى دمشق. وطغت القاف المقلقلة على شوارعها ومقاهيها وغرف الانتظار في الوزارات… وأخذ الحزبيون وأقرباؤهم وبنو عشائرهم يطالبون بحقوق النضال والقربى… فكان التسريح لزاماً من أجل التعيين». هكذا وعلى امتداد أعوام قليلة، أدى حشد العناصر الريفية في الأجهزة الإدارية للدولة إلى تحول حزب البعث حزباً ريفياً على نحو متزايد، وكان هذا الأمر أيضاً نتيجة عمليات الاستقطاب التي اتبعتها النواة القائدة للجنة العسكرية.

 

سيحمل حزب البعث بعد عام 1970، بصمة حافظ الأسد الشخصية. منذ أيار (مايو) 1971، راحت قيادة البعث الجديدة تهلل لقائدها بصفته «قائد المسيرة»، مطلقة بذلك عبادة الأسد. في مرحلة سلطة الأسد نما الحزب في شكل كبير بحيث وصلت نسبة الأعضاء فيه عام 1992، إلى ما يوازي 15 في المئة من عدد سكان سورية، فالحزب والانتساب إلى عضويته بات أيسر الوسائل للارتقاء السياسي والاجتماعي والمهني، إضافة إلى أن كثراً من الفلاحين أو العناصر من أصل فلاحي في مختلف المناطق السورية، خصوصاً مناطق العلويين، تحمل قناعة حقيقية بأن البعث هو حزبهم، ويمثل مصالحهم فعلاً.

حافظ الأسد الحاكم الأول لسورية من أصول فلاحية

انضم الأسد إلى اللجنة العسكرية للحزب عام 1960، وبقي فيها حتى عام 1966 حين أصبح وزيراً للدفاع. عرف عنه تمرسه في المؤامرات السياسية أكثر من تمرسه بالخدمة العسكرية. كان مجرد نقيب في عام 1960، ووضع بين كانون الأول (ديسمبر) 1961 وآذار (مارس) 1963 على قائمة المتقاعدين، لكنه رفع بسرعة يوم انقلاب 1963 إلى رتبة مقدم، وفي عام 1964 إلى رتبة لواء. «وعندما اندلعت حرب الأيام الستة في عام 1967، كان لا يزال غرّاً عسكرياً، ولم يكن يملك المؤهلات الكافية ليكون الرأس المدبر للقوات المسلحة». يصف بطاطو نظرية الأسد تجاه الناس العاديين قائلاً: «الناس العاديون من وجهة نظر الأسد كائنات اقتصادية أساساً، ولم يخلقوا للسياسة. وإنه لمن الممتع كيف يطابق تفكير قائد كالأسد، من أصل فلاحي، في هذا الخصوص، على نحو ما، تفكير حاكم ذي دم ملكي مشهور من القرن الثامن عشر. فقد كتب فريدريك الأكبر إلى فولتير: «إنني أعتبر البشر عموماً مثل قطيع من الأيائل في حديقة النبلاء العظام، ليست لهم أي وظيفة سوى أن يتناسلوا ويملأوا الحديقة». لكن عنصر الاحتقار للبشر عموماً مخفي أكثر لدى الأسد وأقل ارتباطاً بأهليتهم للسياسة أو حاجتهم إلى الوعي السياسي».

في قراءة المستويات في هرم السلطة عند الأسد، يمكن تمييز أربعة. المستوى الأول يتعلق بالاتجاه العام للسياسة أو بالمسائل الحاسمة لنظامه، كالأمن والمخابرات والشؤون العسكرية أو الخارجية، حيث تتركز الخيوط المهمة كلها في يديه، وبحيث يتمتع الأسد هنا بسلطة فردية لا ينازعه أحد فيها. المستوى الثاني يتصل بالرؤساء غير المعلنين لشبكات الاستخبارات والأمن المتعددة التي يعمل باستقلال بعضها عن بعض، وتتمتع بحرية واسعة، وتراقب عن كثب كل ما يمس نظامه. وفي هذا المستوى نفسه، هناك قادة التشكيلات المسلحة النخبوية ذات الأهمية السياسية والحامية النظام والرادعة للانقلابات، مثل الحرس الجمهوري والقوات الخاصة والفرقة الثالثة المدرعة وسرايا الدفاع قبل عام 1984، وهي مسؤولة أيضاً أمام الأسد مباشرة. المستوى الثالث هو قيادة حزب البعث حيث يكون الأسد أمينه العام، لكن أعضاء القيادة لا يقارنون في الأهمية بقادة الاستخبارات أو قادة النخبة. تعمل هذه القيادة أساساً كهيئة استشارية للأسد. أما المستوى الرابع فهو المتعلق بالوزراء وكبار موظفي الدولة والمحافظين والمجالس التنفيذية أو المجالس المحلية وقادة المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب وأجهزتها العامة.

تميز حكم الأسد بإيلاء دور أساسي لعائلته ولعشيرته في الوصول إلى المناصب الأساسية في الدولة. وتركت الغرائز تجاه العائلة والعشيرة والطائفة لدى كثير من العلويين أثرها في هيكل سلطة الأسد إلى هذا الحد أو ذاك. «كان من العلويين ما لا يقل عن 61.3 في المئة من الضباط الـ31 الذين انتقتهم يد الأسد بين عامي 1970 و1997 ليحتلوا المواقع الرئيسية في القوات المسلحة والتشكيلات العسكرية النخبوية وأجهزة الأمن والاستخبارات. وكان ثمانية من هؤلاء من عشيرته الكلبية، وأربعة من عشيرة زوجته، الحدادين. وكان سبعة من بين هؤلاء الاثني عشر منتقين من أقرباء الأسد المباشرين بالدم أو بالزواج».

يطرح سؤال عما إذا كان نظام الأسد طائفياً في صميمه؟ صحيح أن قاعدة سلطة الأسد كانت في جوهرها علوية، وأن مسار حكمه أوجد مناخاً مشحوناً بالطائفية بحيث تصدع المجتمع السوري على أساس طائفي، لكن ليس هناك ما يدل على أن الأسد أعطى تفضيلاً للطائفة العلوية في سياساته الاقتصادية، أو أن غالبية العلويين كانت تتمتع بأسباب الراحة في الحياة أكثر من غالبية الشعب السوري.

يختصر بطاطو نظرته إلى حافظ الأسد وكيفية تعاطيه مع القضايا السياسية بالقول: «ليس من السهل تحديد المكونات الأساسية للرؤية الإقليمية لدى حافظ الأسد. فهو بارع جداً في إخفاء أفكاره الحقيقية، وليس هناك غالباً أي صلة بين آرائه الخاصة وكلماته العلنية، أو بين ما يؤكده من مُثُل وما ينتهجه من سياسات. ولعل في ذلك ما يغري بالقول أن دوافعه ليست عموماً ذات منشأ أيديولوجي، وأن البراغماتية هي بمنزلة السدى واللحمة في فكره وسلوكه. وبعبارة أخرى، فهو يبدو كمن يقوّم الأفكار بدلالة نفعها السياسي. وعلى أي حال، فإن ما هو معروف عن وسائله أكثر مما هو معروف عن غاياته، فغاياته لا تكاد تكتشف إلا عندما تتحقق».

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى