بين الحقل والبيدر/ عناية جابر
راهن الكثير منا على انتفاضات الشباب العربي وأمل بإحداث نقلة سياسية كبيرة. راهن الكثير منا على إسقاط الإستبداد واقامة نظام يتيح فتح الأفق أمام النخب السياسية الجديدة التي يمكن أن تأتي على وقع الديمقراطية وصندوق الإنتخاب بدل طبول العسكر والانقلابات. راهن الكثير منّا على هذه التحركات كثيراً خصوصاً بعد فترة طويلة من الموات السياسي العام، بعد فترة طويلة جداً من تغييب الناس عن القرار السياسي او عن إشراكها حتى ولو بالحد الأدنى في إدارة أمورها وأمور البلاد.
راهنا على اعادة امتلاك المجــــال العام من قبل الناس المغيّبين، وهو حق طبيعيّ في العصر الحالي. لم يخــــطر ببال أحد منا أن تكون الإنتفاضات قد حصلت لهدف آخر غير إسقاط الإستبداد وإقامة العصر الديمقراطي الحديث. على أي حال هكذا بدا لنا. لم نكن نشك لحظة بأن تكون الثورة ثورة شباب العصر لكي تشارك بالقرار على نحو حديث، اي على نحو الإنتخاب والتوصل الى فرز السياسات على اسس الأكثرية الشعبية كما تصدر عن صناديق الإقتراع.
من هنا وعندما انصدمنا بنوعية المعارضات التي نشأت بعد هذه الثورات، وبلورت رغباتنا ببرامج حكم غير ديمقراطية، مال عقلنا وتحليلنا باتجاه اتهام هذه القوى بسرقة الثورة أو ‘مصادرتها’. كنا بحالة صدمة كبيرة إلى حد لم يكن معه من الممكن أن نشرح لأنفسنا ما حصل بغير نظرية ‘المصادرة’. كنا كالمتأكدين من صحة نظرتنا لما يجري، كلنا ثقة بأن ما يجري هو معركة الشباب من أجل إقامة أنظمة عصرية جديدة بحيث لم تصدق عيوننا ما ترى. كانت للبعض منا قناعة بنظرية ‘المؤامرة’ التي تظن أن كل ما يجري في بلادنا هو نتاج مخططات خارجية تتآمر علينا وعلى شعوبنا. فصار عندنا بعض آخر يؤمن بأن كل ما يجري على مستوى الثورة هو مصادرة، أي مؤامرة مقلوبة.
لعل عقلنا لم تتعوّد بعدُ على معالجة وتحليل الأحداث على نحو عقلاني يأخذ الوقائع بعين الإعتبار بدل الرغبات. لعلنا ما نزال تحت تأثير العواطف التي نستعملها في فهم طبيعة الصراعات في مجتمعاتنا. فوجئنا بطبيعة المعارضات البديلة. فوجئنا بعنفها وقلة ديمقراطيتها. فوجئنا بحجمها الجماهيري وعقلها السلفي. فوجئنا بطبيعتها المشابهة لطبيعة السلطة التي حاربنا فيها طابعها الاستبدادي. ومن المفاجأة، وبدلاً من إعمال العقل والتفسير المنطقي، انتقلنا ربما إلى مفهوم غيبي يفسر ما فاتنا رؤيته وتوقعه كما كان ينبغي. لم نجد بين أيدينا ما يفسر مجريات الأحداث، على هذا النحو، غير مفهوم المؤامرة المقلوب: المصادرة.
بمواجهة أحداث خرجت عما كنا نرغبه لم يخطر ببالنا أن نطرح تساؤلات حول طبيعة هذه القوى الجماهيرية التي لا ترغب، مثلنا، ببناء الديمقراطية، والتي تتشابه، كنقطتي ماء، مع السلطة التي تحاربها. لم يخطر ببالنا كيف يمكن لها ان تصادر ثورتنا بوجودنا وبأية وسائل. أسئلة من النوع العقلي الذي يفترض بصاحبه إيجاد أجوبة منطقية بدل الهروب إلى الأمام. فبمواجهة أحداث تتكرر في أكثر من بلد عربي، في الفترة نفسها، لا يمكن الاستمرار بالحديث عن ظواهر متفرقة وعن حيلة تمت سرقة الثورة بواسطتها. بمواجهة التكرار هذا صار لا بد للعقل من أن يجد تفسيراً منطقياً، من أن يكتشف القانون.
عندما تقوم قوى سياسية معينة في أكثر من بلد عربي، مدعومة بقوى شعبية أكيدة، بالهيمنة على الحراك الشعبي لا يكون ذلك مصادرة بل انعكاس لوجود لوحة قوى اجتماعية لم ننتبه إلى قراءتها مسبقاً. عندما تستطيع قوى من لون سياسي محدد، وفي أكثر من بلد عربي، السيطرة على الشارع المعترض وتقوم بإصدار كلام وشعارات وخطابات لا تتلاءم مع رغباتنا، فهذا لا يعني بالضرورة أن هذه القوى جاءت على حين غفلة وصادرت الثورة بل بالعكس. عندما تقوم هذه القوى بالتحدث عن ‘المظلومية’ التاريخية فهي لا تتحدث عنها بالصدفة أو لأنها لم تسمع بعد بخطابنا الجميل عن الديمقراطية والدولة الحديثة.
لعل أسهل السبل لتبرير الخطأ، وضع اللوم على الآخرين. وقد يكون الآخرون فعلا غير بريئين في هذه اللعبة. لكن وجود الآخر غير البريء جزء من الصراع الذي علينا أخذه مسبقاً بعين الإعتبار. تقديس البراءة والعفوية في السياسة مسؤول ربما عن وصول الفكر السياسي العربي إلى هذه الحالة من الرداءة والضعف. البراءة تقضي أن نبدأ بتقديس العفوية في الحراك لكي ننتهي إلى تقديس الغيبية في تفسير الفشل. نصنع الأوهام بأيدينا حتى عندما تكون طاهرة.
ظننا في البداية أن كل من نزل معنا إلى الساحات نزل إليها بطموحاتنا ورغباتنا. ظننا أن من نزل معنا نزل معنا، لنكتشف بالنتيجة أننا نحن من نزل معه. فاتهمناه بمصادرة الثورة. نعم هو ربما قام فعلا بالمصادرة. لكنه لم يصادر حتماً ما كان يعود إليه منذ البدء. أما ما تمت مصادرته فلم يكن غير أحلامنا غير الواقعية. فعندما تتصارع القوى الإجتماعية في بلادنا على شيء، ولا يكون هذا الشيء الديمقراطية، يكون الصراع على شيء آخر. كان على النخب قبل أن تصل إلى مرحلة التفسيرات الغيبية أن تكتشفه وتدرسه مسبقاً.
من السهل جداً الإدعاء بأن هناك قوى غير ديمقراطية سيطرت على الأرض بفضل هذا السبب أو ذاك. من السهل عربي
والطوباوية في آن معاً الإستمرار بالحديث عن ‘الثورة’ المغيبة كأنها جوهر لا يمس، يطمس لكن لا يغيب ابداً. يصادر لكنه سيعود عاجلاً أم آجلاً. لكن الصعب أن نجد تفسيرات مقنعة ومنطقية لمجريات ما يحدث في هذه المنطقة في هذه اللحظة من تاريخها.
القدس العربي