تدمير الذات/ فوّاز حداد
هل في وسع المثقفين العرب اللاجئين إلى الغرب الكتابة عن أزماتهم الإنسانية والوجودية والعاطفية، بمعزل عن مأساة شعوبهم؟ لا ريب، ستضيف الكتابة إلى أوجاعهم نفحة من الحطام الذي خلفوه وراءهم مرغمين. مع الوقت، سيبهت الوطن في الذاكرة إزاء متطلبات حياة سينخرطون فيها مرغمين، ولن يعاب عليهم تقصيرهم في احتلال نكبتهم ساحة مشاعرهم على الدوام، لكن بين حين وآخر، ستدهمهم تفاصيل مزيج من الدم والدمار والركام، وتترك في أفئدتهم آلاماً لن تفلتهم، وجروحاً نفسية وكوابيس حنين ورعب.
وهناك من سيتعيشون على الشماتة بكوارث شعوبهم المهزومة، ذاك نمط المثقفين المتعطشين لتحقيق تنبؤاتهم، بتحويل بلدانهم إلى معرض للعجائب والأهوال، تحت وصفة لافتة من الوحشية والإسلام، يتبارون إلى استعراضها بخلطة من وقائع مشوهة وتخيلات متوهمة، يُتوخى منها أن يمثل الانتحاري والحوريات وقطع الرؤوس، الصورة الثابتة للإسلام، منذ بدء الخليقة، تزلفاً لمزاج غربي عنصري، وجد من قبل في حروب التمدين أيقونة السيطرة على شعوب متخلفة، واليوم يسعده رؤية مآلات الربيع الذي كان أفضل ما صنعه العرب في تاريخهم المعاصر، وقد أمسى خراباً ومواتاً، ما يرسخ تصوراً لشرق كسيح، يتخبط في أمراضه المزمنة، وكأن الانحطاط متلازمة تاريخية لا فكاك منها، إلا بالخروج من المستقبل، والارتداد إلى الهمجية.
في شيوع الكتابة لحساب الآخر هوس مرضي، بإغفال شرق حقيقي يناضل في سبيل الحرية والكرامة، وتغاض عن غرب يتنكر لأبسط المبادئ الإنسانية والأخلاقية، كان له دور مريب في وأد الربيع، ومسارعته إلى تبني الدكتاتورية بالخفاء والعلن، كحل أوحد إنقاذي لأوطان تعيسة.
وهكذا لن نعدم كتاباً، يشيحون بأبصارهم عن جرائم الدكتاتورية، لأن الضرورة تحتم تناسي الماضي، والتعامي عن الحاضر، وقلب صفحة باتجاه مستقبل متوهم. بعدما وجدوا في جرائم “داعش” غنيمة، ومجالاً ثرّاً للفظائع، ما يحيل جرائم الأجهزة الأمنية، بالمقارنة معها، إلى تحقيقات بوليسية يجريها شرلوك هولمز أو هيركيول بوارو، تعتمد على الذكاء فقط، وكأن المخابرات لا تعرف مائة نوع من العذاب، ومائة طريقة للموت البطيء، وأكثر من وسيلة للموت السريع والأسرع، أكثرها رحمة، طلقة في الرأس.
تعرَّف الغرب إلى نفسه في ما يكتبه، بينما كتّاب عرب ينشدون في رغباته ما يكتبونه، فمشوا على أثره، تسكنهم عقدة محاكاته، فتبنوا بشكل إكزوتيكي الشذوذ والفحش والسادية والانحلال. قريباً، سيجدون في تدمير الذات الحل الأمثل في صناعة الانتحار كأنموذج متوطن في بلاد العرب.
ليس الكاتب مكلفاً بالدفاع عن بلاده، بكتابة مآسي شعبه، ليكون وطنياً في بلدان الاغتراب. بل يحق له ألا يلتزم ويصرف جهده وعنايته للفن، كما يحق له أن يلتزم، والإيمان بأن لا فن من دون حرية وكرامة. صحيح أن الفن وحده أمر جيد، لكنه لا يكتفي بنفسه، بل ينحو إلى تبني قيم باتت في زماننا لا تأتي من تلقائها، بل في السعي إليها.
العربي الجديد