تركيا والخوف من “الوحل السوري”
هوشنك بروكا
أثبت الرئيس السوري بشار الأسد بعد مرور ما يقارب ال19 شهراً على مذبح الدم السوري الكبير، أنّ لا خيار لديه سوى الحرب على شعبه، وارتكاب المزيد من القتل والخراب والدمار بحق البلاد والعباد: “الأسد أو حرق البلد”.
هو، الديكتاتور المتعلم، يعلم بالطبع، أنّ سوريا وثورتها قد وصلتا بعد فاتورة الدم الباهظة، إلى نقطة اللاعودة: لا عودة إلى “سورية الأسد”. فلا هو ومعه أهله في النظام يقبلون أن يسلّموا سوريا إلى شعبها، ولا أهل الثورة يقبلون أن تبقى سوريا إلى الأبد مزرعةً للأسد.
الأسد، والحق يُقال، كان صريحاً مع نفسه ومع العالم إلى حدٍّ كبير، لدى تحذيره العالم من مغبة “اللعب” في سوريا أو “العبث ب”فالق”(ها)، ما سيؤدي إلى حدوث “زالزال” في المنطقة وإغراقها من ثمّ ب”الأفغانستانات”. إذن، هو أعلنها صراحةً منذ الأول من قتله لسوريا، عن سياسته الشمشونية: “علي وعلى أعدائي”.
عملاً بهذه السياسة الإنتحارية، سيفعل النظام السوري، الذي يوشك على الغرق، كلّ ما في وسعه لأجل إغراق كلّ سوريا وجيرانها معه.
ولن نبالغ إن قلنا بأن تركيا الجارة الشمالية، هي أكثر جارات سوريا خوفاً من زلزال “الشمشون السوري”، الذي، إن وقع، لن يكون على تركيا برداً وسلاماً.
“تركيا الأطلسية” القوية بالطبع، والتي تملك سادس أكبر جيش في العالم، وثاني أكبر جيش في حلف الناتو، لا تخاف من سوريا في خارجها، بقدر ما أنها تخاف منها في داخلها. هي تخاف سوريا في تركيا، أكثر من خوفها من سوريا في سوريا نفسها.
تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية تفهم جيداً أنّ دخول “الحمّام السوري” لن يكون كالخروج منه. سيما وأنّ النظام السوري لّوح منذ بداية الأزمة بأكثر من ورقة “ضد تركية” لإثارة الفوضى واللإستقرار في الداخل التركي، الذي يعاني من أكثر من مشكلة.
قوة النظام السوري في اللعب بالداخل التركي تفوق قوة تركيا باللعب في الداخل السوري. صحيح أنّ تركيا قد فتحت أبوابها أمام اللاجئين السوريين، وبعض المعارضات السورية المحسوبة عليها، ك”المجلس الوطني السوري” وبعض أجنحة “الجيش السوري الحرّ”، إلاّ أنّ الأتراك، كسائر المجتمع الدولي، لم يحسموا أمرهم حتى اللحظة في دعم الثورة السورية بالأفعال، لإسقاط النظام. تركيا لم تحسم أمرها مع الأزمة السورية بعدُ، بالتدخل العسكري المباشر فيها، لأنها من المحتمل جداً أن تتحوّل في أية لحظة إلى “أزمةٍ تحت الطلب”، لتفجير عمق الداخل التركي، وضرب الأمن والإستقرار التركيين، وهذا ما تخشاه تركيا وتتحاشاه.
فعلى الرغم من تحرّش النظام السوري بتركيا أكثر من مرّة، وفي أكثر من مناسبة، ورغم اشتعال الأزمة الديبلوماسية بين تركيا وسوريا على خلفية مقتل 5 مدنيين أتراك، والقصف “الموضعي” المتبادل بين الجارتين، لليوم الخامس على التوالي، إلا أنّ تركيا لا تزال غير جادة وغير مستعدة على القيام بتدخل عسكري مباشر في سوريا.
لا يزال التردد والتريث وضبط النفس في هذه القضية هو سيد الموقف التركي. من هنا جاء موقف أردوغان من “الحرب مع سوريا” حمّال أوجه، حين قال: “نحن لا نريد الحرب، لكننا لسنا بعيدين عنها أيضاً”. بعد هذا الكلام الديبلوماسي المفتوح على أكثر من تأويلٍ، بساعات، عاد أردوغان ليؤكد في مؤتمر صحفي مشترك مع نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي بأنّ “بلادده لا تنوي الحرب على سوريا”، موضحاً بأن موافقة البرلمان التركي للحكومة التركية على تنفيذ عمليات عسكرية في سوريا رداّ على سقوط قذائف سورية الأربعاء في بلدة تركية حدودية أدت إلى مقتل 5 مدنيين، لا تعني شن الحرب على سوريا، بقدر ما أنها “تهدف إلى تحقيق الردع الفاعل كأنجع وسيلة لمنع الحرب” حسب تعبيره.
إذن ليس في نية تركيا، الآن في أقله، القيام بحرب واسعة النطاق ضد سوريا، ليس خوفاً من سوريا ونظامها بالطبع، وإنما خوفاً من داخلها الممثل بأحزاب المعارضة التركية وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، الذي لا يتوانى في اتهام حزب أردوغان ب”تسليح الجماعات الإرهابية التي تستهدف سوريا”.
تركيا لا تزال تنأى بنفسها عن قرار التدخل العسكري المباشر في سوريا، مهما بلغ حدّ التحرّش السوري بها. هي سترّد على سوريا، تصريحاً بتصريح، وضربةً بضربة، وقصفاً بقصف، لكن دون أن تنزلق إلى محاطر حرب مفتوحة شاملة معها.
هي، لدرء مخاطر هكذا حربٍ وانعكاساتها المدمرة على داخلها الرخو أصلاً، لاتزال تؤمن كشركائها الأميركيين والأوروبيين، بأنّ “الحل السياسي” لا يزال هو الأنسب، لتجنب “الزلزال السوري”، الذي سيكون للإستقرار في تركيا نصيبه الأكبر منه.
التصريح الأخير لوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو الذي قال فيه بأن نائب الرئيس السوري فاروق الشرع “هو إنسان متعقل وذو ضمير ويصلح لاستبدال الرئيس السوري بشار الأسد من أجل وقف الحرب الأهلية في سوريا”، داعياً السوريين إلى تبني “السيناريو اليمني”، هو تعبير واضح عن ترجيح الديبلوماسية التركية، حتى اللحظة، للحل السياسي السلمي على الحل العسكري الأمني. في دعوة مهندس سياسة “تصفير المشاكل” هذه، يمكن قراءة رسالتين: إحداها للخارج مفادها بأنّ تركيا لا تزال تؤمن ككل المجتمع الدولي بالحل السياسي للمشكلة السورية، فيما إذا بقي هناك من حلّ سياسي أصلاً. ما يعني رمي الكرة في الملعب الأممي للوفاء بإلتزاماته تجاه الشعب السوري وثورته. أما الرسالة الثانية فهي للداخل التركي، ربما أُريد بها تطمين أهل المعارضة بأنّ تركيا لن تتورط في حرب لا طائل منها مع سوريا.
النخبة السياسية الحاكمة في تركيا، تفهم جيداً أنّ النظام السوري لا يزال يملك أوراقاً “تحت الطلب” للعب بها، في تركيا، لتشرب هذه الأخيرة من ذات الكأس الذي تشرب منه سوريا الآن. لعل أهم هذه الأوراق هما الورقتان الكردية والعلوية.
فمشكلة الأكراد الذين يصل تعدادهم في تركيا إلى أكثر من 18 مليون نسمة (أكثر من 20% من مجموع سكان تركيا)، لا تزال تعتبر من أكبر المشاكل المؤجلة، تركياً، والتي كلّفت الشعبين التركي والكردي الكثير من القتل والقتل المضاد، حيث قتل أكثر من أربعين ألف شخص في الصراع الذي بدأ منذ حمل “العمّال الكردستاني” السلاح في وجه الدولة التركية عام 1984. قادة حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسهم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، قالوا الكثير في هذه المشكلة، لكنه لم يفعلوا إلا إلقليل. هم قالوا أن المشكلة هي مشكلتهم، لكنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يكونوا جزءاً من حلّها. الأمر الذي يبقي أبواب تركيا مع أكرادها، مفتوحةً على أكثر من سيناريو سيء.
القضية العلوية في تركيا، باتت هي الأخرى تشكلّ بعد تسلم العدالة والتنمية في الإنتخابات التشريعية عام 2002 دفة الحكم عبئاً إضافياً على الدولة التركية. فالعلويون في تركيا الذين يربو تعدادهم على ال 20 مليون نسمة (أي ما يقارب ال 25% من مجموع السكان) لا يدخرون جهداً في اتهام العدالة والتنمية ورئيسها ب”العمل على أسلمة الدولة والمجتمع” وتحويل تركيا من “دولة علمانية أتاتوركية” إلى “دولة دينية”، هذا ناهيك عن اتهامه من جهة معارضيه بإتباع “نهج استبدادي وسياسة كمّ الأفواه”.
تركيا حذرة جداً من استغلال النظام السوري لهاتين الورقتين، اللتين ستقصمان ظهرها فيما لو أقدمت تركيا على التدخل العسكري المباشر في سوريا.
إضافة إلى حسابات الداخل التركي التي تحسب لها الحكومة التركية ألف حساب وحساب، هناك حسابات خارجية إقليمية (إيرانية بالدرجة الأولى) ودولية (روسية من جهة وأميركية وأوروبية من جهة أخرى)، تجعل تركيا تفكر ألف مرّة قبل أن تخطو خطوة نحو حربٍ ضد سوريا بمفردها.
لا شكّ أن الأتراك يبحثون عن لعب دور ريادي في العالم، مغرباً ومشرقاً، وعلى هذا الأساس يبحثون عن دورٍ جديد لهم في سوريا القادمة من بعد الأسد، إلا أنّ الأكيد هو، أنهم لن ينزلوا إلى الملعب السوري بدون أميركا وشركائها الأوروبيين.
تركيا، التي استفادت وأخذت العبرة من دورها المتفرج في العراق قبل ما يقارب العشر سنوات، قد تسبقهم في اللعب، هذه المرّة، في الملعب السوري القادم، لكنها لن تغامر في أن تكون اللاعب الوحيد فيه.
ايلاف