تفريغ المجال العام: لغة مقدسة ومجاذيب!/ مهاب نصر
1
واحد من المؤلفات المثيرة للتأمل كتاب الباحثة الإيرانية نيلوفر حائري “لغة مقدسة وناس عاديون.. معضلات الثقافة والسياسة في مصر”. حائري التي عاشت في القاهرة سنوات مقيمة في بيوت أسر مصرية لم تقف أمام السؤال عن الازدواج اللغوي في مصر بين العامية والعربية لتجعل العامية ببساطة تمثيلا للإنسان العادي أو “المواطن الأصيل”، في مواجهة العربية الفصحى؛ لغة الدواوين والوزارات والإعلام والمدارس الرسمية والثقافة أيضا.. أي لغة السلطة والنخبة، ولكنها قطعت خطوة أبعد للتساءل عن الاحترام (وأحيانا التقديس) الذي يحمله العوام للغة يتعلمونها بعسر، ولا يحسنون الكلام بها، لغة ليست هي بالتأكيد “اللغة الأم”. من المفهوم، مع بقاء ذلك أمرا إشكاليا، أن يكون هناك نوع من التقديس للعربية لاعتبارات دينية، وهي اعتبارات بولغ فيها واستغلت بكيفية ما لتكريس سلطة جانب من نخبة ثقافية تقليدية تشكلت وفق منوظمة تعليم ديني وكانت امتدادا تاريخيا لنظم تعليم قروسطية شكّل الأزهر والكتاتيب حصنها ومعقلها. لكن هذا نفسه يكشف عن طبيعة التركيب الاجتماعي/ الثقافي المتداخل. القضية ليست ببساطة أنه كان من الممكن الانحياز للعامية، أو الفصحى تمثيلا لطبقة أو جماعة بشرية، وإن كان هذا يحدث أحيانا وربما دائما بشكل ضمني، بحيث يمكن أن تعبر هذه أو تلك عن مصالح من تمثلهم ووعيهم وثقافتهم، بل كان الأمران ملتبسين في كل فئة: فتقديس “العاديين” للغة لم يكن يعني بحال أنها: حقيقة، بل هي مقدسة وزائفة. إن فكرة القداسة تُرجأ باستمرار لمسافة يعتقد فيها بجزم، مع بقائها مستحيلة. وكلمة “فقي” التي كان يطلقها الناس على الناطقين بتفاصح كانت تحمل معنى التهكم المنسوب إلى “الفقيه” رجل الدين، بل ابعد من ذلك إلى كون لغته زائفة. لن أتعرض هنا للصراع بين النخبتين العلمانية والدينية أو تلك المدافعة عن الثقافة العربية “الأصيلة”، لكن ما يلفت الانتباه أكثر هو أن النخب اليسارية مثلا كانت تستخدم “أحيانا”، العامية، في شكلها الأدبي خصوصا، كنوع من المواجهة مع السلطة الرسمية أو النخب “البرجوازية” المحافظة، باعتبار العامية تمثيلا لإنسان عادي متخيل، متجاهلة الإشكالية العميقة التي يعيشها هذا المواطن نفسه. إن ثمة تعاطفا ملتبسا من قبل المواطن العادي تجاه اللغة التي يحسنها وتتكشف فيها هويته هو تعاطف العاجز عن التصديق. ومن ثم، فعلى الصعيد السياسي، لم يكن هذا الشكل من التمثيل اللغوي يعنيه أو تنطلي عليه ذريعته السياسية. كيف يمكن أن تتتصرف كفرد ولد في تلك البيئة اللغوية محملا بهذا الازدواج المبدئي المضاعف؟ كيف يمكن أن تشتق أي بنية خاصة لـ “الحقيقة” في تعبيرك عن ذاتك في لغة تسحب البساط من تحت مصداقية هذه اللغة نفسها؟ على أي أرض زلقة تقف؟!
في العقدين الأخيرين، وفي ظل تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة اكتسب التعبير الجمالي عن “المواطن العادي” في الأفلام الكوميدية على وجه الخصوص بعدا جديدا؛ إنها “التأتأة”.. العجز الفعلي عن النطق، نوع من هوية لغوية تشبه ثوبا مرقعا، تجميع عشوائي لكلمات وجمل غير مكتملة، تنقل بدورها، أصداء وظلال لقيم متضاربة. نطق متعثر ونظرة زائغة شبه منومة. إنه أصدق تمثيل للواقع بالفعل. وتأتي لعبة التواطؤ عادة في نهاية الفيلم.
فجأة ينصلح حال الشفة المقلوبة، ويندفع اللسان بطلاقة مسرحية لاهجا بمجموعة من الحكم والخلاصات الأخلاقية. إنها الخلاصات نفسها، في الواقع، التي جعلت العجز ممكنا وطبيعيا. لا يؤخذ نموذج “العيّ” في الاعتبار أبدا، ويحافظ على ازدواج العالمين اللغويين: التام الخالي من المعنى، والمدمّر ذاتيا بفعل هذا الخواء نفسه. إنه توفيق مدهش أن يجمع فيلم “اللي بالي بالك”، حيث تؤدي هذه الشخصية الدور الرئيسي، بين المواطن البسيط والضابط في جسد واحد، فهما معا يشكلان وجهين من العدم.
إن لغة لا تتعرف إلى نفسها في سلطة هي لغة مبتورة وغير ناضجة، ولكنها في الفيلم، وبشكل مدهش، تحافظ على ازدواجها الملتبس حال تقمصها “لجسد” – السلطة، فهي لا تكتسب السلطة من خطابها نفسه بل من خطأ استثنائي، يحافظ على المسافة بين كليهما: السلطة والكلام. “أهو كلام.. أدينا بنتكلم..” مثل هذه التعبيرات ليست عفوية على الإطلاق. إنها إسراع للتنصل من مواجهة اللغة لذاتها، من مسؤوليتها ومسؤولية المتكلم بطبيعة الحال. يتحول هذا المأزق من قبل نخب بعينها إلى مكسب، وذلك بادعاء أن ثمة لغة طاهرة من السلطة، لكن الفيلم يقدم استبصارا غير مقصود وما يشبه النبوءة: إنه تخثّر اللغة ذاتها وانحلالها، ومعها بالطبع انحلال الشخصية نفسها. ينشأ هوام الأنا، أي تلك الوحدة الخيالية للذات، في اللغة، أي في المجال الرمزي، لكننا هنا أمام مجال معطوب بجرح أساسي. ولذلك يصبح التماهي مع الرمزي مستحيلا من البداية، أو على الأقل خطرا فادحا. إن الخيالي، بحسب تعبير لاكان، لن يدخل في جدل مع الرمزي لإعادة اكتشاف نفسه فيه، بل سيتعامل معه بانتقائية، وسيستدعيه إلى حقل الخيالي ليكون استعارة للأنا نفسها، عامل توحيد ودعم. وهكذا لا يعود المجال العام، حيث يسكن الرمزي، أكثر من مجال منازعة، إن ما يحدث ليس امتلاء المجال العام بالأنوات المتصارعة، بل تفريغ المجال العام وإعادة خلقه في بيت الأنا. نحن بالطبع سنكون أمام شكل من أشكال العصاب الجماعي يتحرك بين قطبي السلطة والخذلان؛ سلطة الأنا غير المكتملة أبدا، وخذلان الجماعة.
2
كان من الطبيعي أن يتساءل الروائيون، “الساردون الأوائل”، عن لغة الرواية، في لحظة كانت فكرة التمصير، أي الفكرة الوطنية بالأساس، تقود النزعة الواقعية لا العكس. لقد وجد خريجو المدارس والجامعات، هؤلاء المطلعين حديثا على الأعمال الروائية الكلاسيكة وبالطبع على مصير العامية في اللغات الأوروبية ودوره في تأسيس الهوية الحديثة للدولة، مبررا لطرح السؤال، خصوصا، في ما يتصل بالحوار الروائي. لكنني أريد أن أتوقف عند تجربة محفوظ الروائية آخذا في الاعتبار أن السرد الفصيح كان بحد ذاته مشكلة بنيوية ولا أعني السرد الروائي، بل السرد الفصيح باعتباره المؤهل لدخول المجال العام. وبعبارة أخرى كيف أن مشكلات الفصحى، وطبيعة المجال العام شكلا معا أساسا لبناء سردي مصطنع بالكامل ولا يمكنه إلا أن يكون كذلك. ولذا فإنني أقترح أن ما كتبه محفوظ، وربما ينسحب هذا على النتاج الروائي عموماً، هو أليغوريا عظيمة، وليس رواية بالمعنى الذي تأسست به في الغرب. فإذا كانت الأخيرة قد اعتمدت على الفرد باعتبار أن خطابه ذو قدرة تمثيلية، ومن ثم فقد كانت الرواية تحاكي ما يمكن أن يقوله هذا الفرد فعلا، وكيف يتقاطاع خطابه ويضاء بخطابات الآخرين، فإن هذا الأمر نفسه كان بالغ الصعوبة في ما يتعلق بتمثيل الفرد في الرواية المحفوظية.
في الأمثولة “أليغوري” ما يهم هو الأفعال لا الكلام. وهذا يتناسب مع الظرف الذي وجدت الرواية فيه نفسها، وما زالت بنسب متفاوتة. هذا بالطبع ليس أكثر من اقتراح مؤقت، فلست على ثقة منه إلا بقدر ما يخبر عن طبيعة اللغة/ الكلام، أي عن المجال الرمزي، أو جانبه الأكثر جذرية حيث تتعرف الذوات إلى نفسها والعام.
لقد كانت الملحوظة الأولى فيما يتعلق بالحوار الروائي عند محفوظ، وعموما بلغة المتكلمين في الرواية وطريقة سردهم أنفسهم هي كونه، بتعبير جوديث باتلر، سرد لا يتعرض لمقاطعة. وتحافظ فيه الأنا على تماسكها بمخاطبة نفسها طوال الوقت. فحتى أنيس في رواية “ثرثرة فوق النيل” يقدم لنا فعليا الشخصية الأكثر التئاما حول نفسها. إن غيابه حضور كثيف كثافة دخان الحشيش الذي يحيط وجوده. في هذه الرواية وفي غيرها، تكاد تكون الحوارات الأكثر أهمية هي تلك التي تتمثل في مونولوجات طويلة. ولعل هذا ما يجعل منطقا، وليس مجرد تجريب شكلي، أن يلجأ مباشرة إلى رواية الأصوات المتعددة، حيث يحافظ السرد هنا على نقائه كوجهة نظر تامة. ومع هذا فتعبير “وجهة نظر” تعبير غير دقيق، فلا صوت من تلك الأصوات يعد “نسبيا” قياسا غلى صوت “الآخر”، بل يبدو كمن يحاجج أمام محكمة خاصة.
إن صورة المحكمة تتكرر فعليا في أكثر من عمل روائي” “الطريق”، “اللص والكلاب”، “أمام العرش”. وبتعبير بسيط إن شخصيات نجيب محفوظ لا تخاطب أحدا، بل ضمائرها. ولهذا لا يعني لها الآخر الفعلي شيئا، حتى مع كونه يمثل موضوع رغبتها.
إن الشرخ في المجال الرمزي قد أعيد إنتاجه هنا في الخيالي، إذا استعنا بتعبير لاكان، في كل صوت، فهو صوت لا يبرح المرآة مطالبا إياها بإعادة الالتئام إلى جسده. يتلاءم هذا مع موقف عام: رواية توجه إرشادا أخلاقيا، ليس بالمعنى الساذج بالطبع، بل بمعنى أنها تجعل الإرادة صلب الفعل التاريخي. وهي إرادة لن تتحق إلا بعودة هذا الالئتام، أو بالأصح بنوع من الاعتراف بالذات.
غير أن ذوات محفوظ تخفق دائما. وهي تزيف المحاكمة مبرأة نفسها دائما ومحيلة إلى الأب/ الإله الغائب.
لكن محاججة “الطريق”، على وجه الخصوص، وهي رمزية الطابع بشكل فج، تضعنا أمام إدراك مركّب يمثل بدقة مدهشة مأزق الفرد في “أوطان” ما بعد الاستعمار، تلك الأوطان منقوصة الشرعية بسبب تاريخي والتي تعد فيها الجماعة البشرية مقطوعة الصلة فعليا بأصلها الثقافي والبنيوي. في المحاكة المفترضة التي تنتهي بها رواية “الطريق” يدور الحوار بين بطل الرواية صابر الرحيمي ومحاميه بعدما صار مهددا بحكم الإعدام. الحديث هنا يدور بشكل استعاري عن “القانون” الذي لا يرى إلا الواقع الحالي (الظرف مقطوع الصلة) والأب الذي يفترض أنه يمثل الأفق الرمزي الغائب، الضمير الذي يعلو القانون.
يلتقي المحامي بشخص ضرير يخبره أن الأب “سيد سيد الرحيمي موجود”، وتسبغ عليه صفات أسطورية، الأهم بحسب قول رواية المحامي “أن قوانين الدولة لا تهدده”. قانون الدولة أعمى، ولكنه عمى مضاعف ليس لسبب يخص فكرة القانون فقط ولكن لكونه أيضا غير تمثيلي ولا شرعي، وهذا بالطبع لا يلتفت إليه محفوظ للأسف. إن الأب الغائب يبقى هو القانون المطابق للحرية الذي تحدث عنه أغامبن في “الاستثناء”، قانون يقرأ الضمائر وإرادة الخير التي بإمكانها أن تخفق، قانون يقبل الاستئناف لأنه لا ينظر إلى اللحظة، ولا إلى التقويم التاريخي لمواطني دولة، بل التاريخ بالمطلق كمسعى لا ينتهي، قانون لا تعد الجريمة بسببه مسوغا للطرد من الإنسانية، بل يتسع لمفهوم جدلي للعدالة يسعى لمطابقتها بالحرية نفسها التي يتمتع بها الله/ الأب.
“وقال صاحبي إنه ما زال محتفظا بحيوية الشباب وأفكاره وضحكاته وقال: “إني أتجول بين قارة وأخرى كما يتجول أصبعك بين طرفي شاربك” وقال أيضا:” لا تعد نفسك من الأحياء حتى تطوف بأربعة أركان المعمورة وتمارس فيها الحب”. الطريق.
من الغريب أن الرواية التي ترتكز على قضية الحب تحديدا (رواية “عصر الحب”) تنتهي بحضور “آخر” البطل، أي بحضوره المتكلم. يبدو هذا القسم من الرواية الأكثر غموضا ليس لطابعه الخيالي/ الفصامي فقط. عزت (بطل الرواية) يبدو وكأنه تحول إلى شبح لا قدرة له على السيطرة على هذا “الآخر” الذي، بدوره، بدا وكأنه لا ينصت لـ”شريكه” متخذا قرارات مفاجئة بتصفية كل مظاهر حياته السالفة، والعودة إلى الدار الأولى.
بطبيعة الحال فإن أسلوب “الأليغوري” يجعل من الصعب تبيان معالم هذه الهوية المنقسمة. لكن ما يلفتنا، مؤقتا، أن الرواية لا تفسر مطلقا فكرة الحب، فيبقى الحب طاقة مخيفة وهشة، معتصمة بحجابها. يشبه الحب في رواية محفوظ الفائض المقلق للملل، قبضة عصيان في الموضع الخطأ. إنه ليس علاقة، بل “العلاقة” وهمَّه الأكبر والضروري مع ذلك.
“تحاول أن تجعل منا أدوات لخلق السلام لنفسك، كما سبق أن جعلت منا أدوات تخريب لتشيد فوق أطلالنا السعادة التي رفضتك”.
مثلما هو كشف أقنعة “الآخر الصغير”، التي هي في الوقت عينه، هوامات الأنا، يتبدد وهم عزت في المسرح والحب وحتى في حياة اللذة. ويبدو وكأن ما يسميه محفوظ “الآخر” هو نفسه “الأنا” خارجة من المحنة، لا بسلام نفسي، ولكن بنوع من التصالح مع مكانها من العالم.
إن روايات محفوظ هي “ما قبل الرواية” وما قبل التاريخ معا. فالتاريخ، كعلاقة واعية بالحدث وصانعة له، لم تتوفر. وسنلحظ دائما أن “الحدث” في روايات محفوظ يظل “حدثا”، أي متمتعا بكامل استقلاله ومفاجأته كلحظة الميلاد. من الخطأ الاعتقاد بأن محفوظ تحدث عن التاريخ، بل “الحدث” التاريخي. الحب نفسه ليس أكثر من “حدث”، ضربة طائشة مقدّرة. هذا النسق من السرد ينعكس في ظاهرة لافتة تتعلق بالحوار الروائي: اي حال الكلام الفعلي باعتبار الكلام دائما موجها إلى آخر. فحوارات أبطال نجيب محفوظ مدغمة ومتوترة محفوفة بالرموز التي لا يملك مفاتيحها إلا المتكلم نفسه. الحوار (هذا الكلام الظاهر) هو قمة جبل الجليد كما يقال، وهو من ثم لا يضاهي مطلقا حوارا موضوعيا، بل يبدو دائما أكبر أو أقل من الموقف، ثمة شيء أبعد غورا من أي موضوع للحوار يجعل الموضوع نفسه مجرد قناع، مناسبة، لتقول كل ذات ما عندها دفعة واحدة، ولأن هذا محال، تبدو ظاهرة التضخيم ملازمة للسرد، شيء يشبه الأنف المتورم من لسعة حشرة.
هذه الحوارات نفسها تشبه إلى درجة كبيرة التراشق السردي في الحياة الواقعية حتى الآن. إن “الجريمة”، كما يصورها محفوظ، ليست بعيدة عن الجريمة في الواقع الفعلي، جموحها وعشوائيتها، وليس هذا بسبب كون محفوظ كاتبا واقعيا بالمعنى المألوف “الغربي”، ولكن باعتباره مدركا بحدس عميق عدم أصالة الواقع الموضوعي كمرتكز للصراع، وهنا تضع رواية محفوظ يدها على ما يفلت من أحفاده: ما سرُّ كل هذا العنف؟.
إذا كنا نشعر بأن ثمة شيئا ما غائبا في هذا السرد، فهو نفسه ما يغيب عن أبطال الحياة الواقعية؛ المتمردين الساقطين، المولهين بتحقيق ذات لا يتعرفون إليها في مرآة إلا ويسرعون بالفرار، المتحدثين إلى أنفسهم، لأن “أحدا لن يفهمنا”، الصاعدين إلى النبل على درجات من النذالة.
3
ثمة حوار، ضمن استطلاعات نيلوفلر حائري في كتابها “لغة مقدسة وناس عاديون”، يستحق التوقف عنده. يخبرها أحدهم عن أهمية التحدث بالعامية: “في فرق لما اتكلم بالعامية الكلام بيبقى مني ليكي على طول، واللي في المجلة ده فصحى، أمنا اللي باتكلمه معاكي دلوقت عامية. اللغة العربية مش صعبة لكن العامية هي لهجة الحياة. لو اتكلمت معاكي بالفصحى ح آخد وقت كتير. ومش معقول نتكلم كدة مع بعضنا”
وتصف حائري جملة “مني ليكي على طول” بأنها “دقيقة”. ومع هذا فالجملة تخفي موقفا يذكرنا بموقف دريدا من الكلام الشفوي: أي بنقده لتصور الأصل الشفهي للكلام، كونه يمثل المباشرة، الحضور الكامل.
يتغزل المصريون في العامية بوصفها “التعبير المباشر” الأكثر بساطة، خفيفة الدم. إنها، بهذه الأوصاف، تضع العامية في صلب الهوية، مع إكساب هذه الهوية طابعا جماليا مجانيا.
ومن المدهش أن الطابع الهوياتي والجمالي نفسه يُضفَى على العربية الفصحى، لأسباب مناقضة تماما. فبعض من أجرت حائري معهم حوارات بشأن علاقتهم بالفصحى وصفوها بالـ”الجميلة”، و”القوية” وأنها “تنسيهم مشكلاتهم اليومية”.
إن تصور لغة ما قادرة بذاتها على التعبير عن هوية غير إشكالية هو بحد ذاته مخزن عنف مستتر. كم من الأدبيات الشعبية تشير إلى نكران الصديق والغربة وسوء الفهم الذي عليك أن تتوقعه من الناس! في المقابل ثمة مقارنة دائما بين “لغتنا” ولغات الآخرين يشي بقلق يدافع عن نفسه.
في أحد أفلام إسماعيل يس نتعرف إلى ابن أحد أثرياء الريف نزيلا في فندق من فنادق باريس، يصحبه “خواجا”، نصاب بالطبع! على عادة الأثرياء ابتُعث إسماعيل يس ليحصل على شهادة من “بلاد برا”. على مدار عشر دقائق من الفيلم يتجول إسماعيل يس بين غرفته في الفندق وقاعاته وصالة الرقص الملحقة به ولا يتوقف عن وصف كل من يلتقيهم موجها الحديث إليهم بالسخرية السمجة والسباب، من دون أي معرفة بهم، ومعتمدا، في الوقت نفسه، على جهلهم بلغته. هذه الدناءة هي بطانة هوية قلقة.
تحمل اللغة دائما، في مثل هذه الحالات، كما في استخدامها الفصيح، شيئا مضافا، عبئا ما، شعورا ضمنيا بعدم الكفاية، تمركزا حول الذات يتجه بطاقة عنف إلى الخارج.
لم تفشل فقط محاولات “تبسيط” العربية الفصحى، والتي كان مدعاها في الواقع مجرد التخفيف على المتعلمين وليس تحويلها إلى لغة للحياة كما للكتابة، بل لم تتمكن العامية أيضا من أن تصبح لغة حيث معنى اللغة أصلا هو “التوسط”. هذا الاعتراف بالتوسط ليس كائنا في اللغتين العامية والعربية الفصحى، فكلتاهما تعبير هوياتي منقوص، كلتاهما تطعن الأخرى في الظهر، كلتاهما لا تفترض الالتباس والإحالة الموضوعية المتنازع عليها، كلتاهما تسقطان التفاوض والتعثر والشك، كلتاهما واجهة لذات تزداد ضآلة وارتيابا تحت سطح اللغة.
لكن مناقشة هذه القضية، بعيداً عن تأسيس ما يسمى بالدولة الحديثة، وباستحداث الشعور القومي على أرض زلقة من البداية، ثم بطبيعة الحال مأزق العلاقة الاستعمارية – لن يمدنا بأي خبرة حقيقة، بل يضعنا حيال اليأس مباشرة. والحقيقة أن اليأس و”نهاية الكلام” والتخلص من الإشكال كله بإدانة الذات هو مرادف شاعري للعنف نفسه؛ وطاقته موجهة إلى الذات ومتطلعة إلى العدم.
*شاعر من مصر
ضفة ثالثة
لتحميل كتاب الباحثة الإيرانية نيلوفر حائري “لغة مقدسة وناس عاديون.. معضلات الثقافة والسياسة في مصر” من الرابط التالي “نسخة غير جيدة”
لغة مقدسة وناس عاديون.. معضلات الثقافة والسياسة في مص