مراجعات كتب

ورددت الجبال’ للأمريكي الافغاني خالد حسيني: رواية اجيال تحكي قصة أفغانستان الحديثة

ابراهيم درويش

‘ بعيدا عن الفكر والحق والصواب هناك بستان القاك فيه’ اختار الكاتب الامريكي من اصل افغاني خالد حسيني هذه العبارات للشاعر جلال الدين الرومي كي تكون مفتاحا لفهم روايته الجيلية عن بلده، وهي على خلاف الروايتين السابقيتن اللتان كتبهما ‘ سباق الطائرات الورقية’ و’ الف شمس رائعة’ تنشغل الرواية الحالية ‘ورددت الجبال’ وهي اطول من سابقيتها بفكرة المصيرـ والنسيان والذاكرة وتلاقي الاقدار، فالبحث عن المصير يجعل الابطال يرحلون ويفتشون عن قدر جديد لهم بالارتحال والسفر وبداية لحياة جديدة لا تنهي بالضرورة فكرة الذاكرة بل تؤكدها، مع ان الابطال يقبلون بما حققوه ووصلوا اليه. وفي عودتهم لايامهم الماضية يختارون ما بقي منها او اجمل ما حملوه من الماضي الذي لا يريدون ان ينمحي.

من زمن الهبيين الى الحرب

ويقدم حسيني تاريخ بلاده في ازمانه المختلفة كمنبع للذاكرة الحية، وكأنه يريد ان يعيد له مكانته في تاريخ الامم وهو البلد الذي يعيش حروبا وويلات منذ اكثر من اربعة عقود، ويرتبط والحالة هذا اسم البلد بكل ما هو سيىء، التطرف، والمخدرات، وامراء الحرب والفساد والاحتلال الامريكي والغربي، والرحيل الدائم الى اماكن اللجوء والمخيمات في باكستان او ايران. ويحاول حسيني ان يعيد للذاكرة صفحة من تاريخ افغانستان مع الحداثة والانفتاح على العالم قبل ان تقع فريسة للاحتلال الشيوعي والحرب بعدها ومن ثم المحافظة التي رمز اليها بطالبان والبرقع. فهو يعود بقارئه الى السنوات التي تبعت ما بعد الحرب العالمية الثانية والافكار الجريئة التي حاولت تحدي التيار المحافظ والافكار التجديدية للملك امان الله، وصورة افغانستان ونخبتها المتغربة التي كانت تعيش حياتها الخاصة وتتكلم برطانات متعددة تشي بتعلمها ومعرفتها بالعالم، فافغانستان الخمسينيات والستينيات كانت مراحا للهيبيين والباحثين عن اللذة المحرمة والتهويم في عوالم الحشيش والبحث عن جمال افغانستان الخفي والمخفي. ومن هنا وفي استعادته لزمن ماض واطلاله الباقية التي نجت من شرور الحرب ومواجهته يقوم حسيني بجدل خيوط روايته وينقل قارئه من عالم افغانستان الذي ينطلق منه الى جغرافيا واسعة وتواريخ شخصية متجادلة. حيث تتلبس الشخصيات هويات جديدة في العالم وتنسى هويتها الافغانية. وابطال حسيني، ليسوا لاجئين بالضرورة، محرومون تنطبق عليهم الرؤية النمطية التي نراها لابناء مخيمات الافغان في باكستان ممن يعيشون الفقر ويتقنون البندقية، فالحرب في معظم الاحيان بعيدة وغائبة والهاربون من لعنتها يبدأون حياة جديدة تتشكل دائما بالمحيط الذي يعيشون فيه ويتلبسون هويات جديدة، ومن هنا يبدو الابطال عاديون متآلفون مع قدرهم وعالمهم، اي عالم القرية العالمية، يتحدثون برطانات ولغات مختلفة، ناجحون في المنفى، اطباء ومهندسون ومحاضرون في السوربون واصحاب محلات ومطاعم تبيع ‘الكابلي’، الارز الافغاني بالجزر والزبيب ولحم الضأن و ‘الكباب’ الافغاني الشهير. وعلاقة كل بطل بالذاكرة تتراوح بقدر ما يعلق من ذكريات على جدار بيته.

ضد النسيان

وقد قدم حسيني ابطاله المهاجرين والهاربين من واقعهم كحالات انسانية دفعتهم الضرورة للخروج بحثا عن طريقة لنسيان واقعهم وبالتالي اجتراح زمن جديد، ومن هنا ينقلنا مع الابطال من كابول، الى باريس ، تينوس اليونانية، وامريكا وكل مدن العالم التي تحضر هنا وهناك نتيجة لرحلات وتنقل الابطال. والحرب وان كانت العامل الذي يجعل البطل يرحل الا ان الفقر هو الذي دافع للتضحية بابناء العائلة لتوفير حياة كريمة لهم، بعيدا عن اثر هذا على طبيعة العلاقات اللاحقة في داخل العائلة، فالغول في الاساطير الافغانية ‘الديف’ هو مثار للخوف لانه يأتي في مرات معينة للقرى والارياف باحثا عن صيد، وهو يخير ابناء القرى بين التضحية بكل ابناء العائلة او التنازل عن ولد منها من اجل حياة كريمة. والغول يعول على امر واحد ومهم وهو النسيان، فالزمن قادر على محو آلام ما حدث.

الديف

ولا غرابة ان تبدأ رواية حسيني بحكاية الغيلان والجن حكاها صبور من بلدة شادباغ لابنه عبدالله وابنته باري ليلة الرحلة الى كابول في خريف عام 1952 وهي الرحلة التي غيرت مصير البنت والابن والعائلة وللابد. انها عن المزارع بابا ايوب من بلدة ‘ميدان زبز′ حيث كان يفلح ارضه في القرية المقفرة، ولكنه كان متعلقا بواحد من ابنائه، الاصغر قيس والذي اظهر علامات انه كان يمشي وهو نائم، فاضطرت العائلة خوفا من خروجه في الليل من البيت وتعثره بالحجارة او البهواهش وضع جرس على صدره كانذار حالة وقوفه او خروجه ولمعرفة مكانه. وقد اعجب قيس بالجرس الذي كان يرن ويخشخش اينما راح وذهب. ومع ان الولد كبر وتخلص من عادة النوم ماشيا الا انه احب الجرس وتعلق به ورفض خلعه. وكما في كل قصص الحوريات والجن والغيلان فالحياة تظل جميلة ووادعة حتى يحضر الغول، ففي يوم من ايام السنة، سمع اهل القرية وقع اقدام الجن او الغول ‘الديف’ الهادرة فترك الفلاحون اراضيهم وحقولهم وجمعت الامهات الابناء من الشوارع والازقة واغلق الكل بيوتهم على انفسهم بانتظار دقات الغول على الباب كي يطالب بصيده الذي سيأخذه معه وتتحرر القرية من بلائه لاعوام قادمة. ولا تعرف طابع الخوف الذي يعتمر ويغلي في قلوب الاباء والامهات وهم يجلسون يحضنون ابناءهم كأنهم يريدون الحفاظ عليهم للابد. ولسوء حظ بابا ايوب جاء القدر نفسه ضاربا على باب بيته واعطي مهلة طلوع الفجر حتى يقدم ضحيته من ابنائه والا خسر كل الابناء. كان طلب الغول مثل الصاعقة، ومضت الساعات ثقيلة على بابا ايوب حيث طلب من الام ان تختار، او تقوم بالقرعة، فرفضت فكيف تفرط ام بفلذة كبدها. ومع اقتراب موعد التسليم يغمض بابا ايوب عينيه ويمسك بابنه الاحب الى قلبه قيس ويدفعه خارج الباب، ثم يغلقه تاركا الولد في العتمة خائفا، يصيح ويناشد والده ان لا يتركه وحيدا ولكن الاب اختار الضحية. شيئا فشيئا يتراجع الصراع ويتلاشى صوت الابن الهلع ويطلع الفجر على عائلة فقدت ابنها للغول، ويأتي كل اهل القرية للبيت لتقديم المساعدة والوقوف الى جانب العائلة المنكوبة. بابا ايوب الذي ضحى بابنه كان اكثر من تأثر، فقد الشهية للطعام، وانعزل عن العالم، وهن جسده واصبح كل عمله هو الجلوس على صخرة تقابل الجبل الذي يقال ان الغول يأخذ الاولاد الى هناك ويأكلهم او يقرر ماذا يفعل بهم. لم تنفع محاولات الابناء والام اعادة الاب الى رشده وجعله يتقبل بالقدر. فقد اصر الاب على مواجهة الغول واستعادة ابنه قيس. وقرر يوما مغادرة القرية وتسلق الجبل البعيد، وفي الرحلة الاسطورية التي بلي فيه ثوبه وتمزق فيه حذاؤه، يصل بابا ايوب الى الجبل ويدق على قلعة ‘الدف’ ويدعو الغول للمنازلة واعادة ابنه اليه. يتلقى الغول بابا ايوب بنوع من الادب ويدخله القلعة، ومن اجل ان يؤكد له انه غول طيب ينقله في قاعات القلعة الواسعة وابهاء المكان الى ان يصل الى لوح زجاجي يفصح عن ‘جنة’ يظهر من خلاله اطفال يلعبون ويرقصون ويتعرف على قيس من الجرس المعلق في رقبته وقد كبر واصبح اكثر وسامة. يقارن بابا ايوب بين الحياة الجميلة التي يعيشها قيس وبين مصيره لو ظل في القرية يعيش في ظل الفقر. بابا ايوب وان اعترف بالواقع الا انه ظل غاضبا على الغول، ويترك المكان دون ان يتحدث الى الغول الذي يعطيه قبل عودته اكسيرا يطلب منه تجرعه طوال رحلة العودة للبيت. يعود بابا ايوب، وتفرح العائلة به، وتحضر القرية اليه مهنئة بالعودة وتسأله ان كان وجد الابن الضائع، لكن بابا ايوب لم يعد يتذكر تفاصيل الرحلة الرهيبة ولا يتذكر ان كان له ابن اسمه قيس، لقد محى اكسير الغول كل ما شاهده وما رآه.. لقد نسي كل شيء.

الى كابول

هذه القصة يحكيها الاب صبور لابنه عبدالله (10 اعوام) وابنته باري (6 اعوام) في ليلة الرحلة المهمة التي كانوا سيبدأونها في صباح اليوم التالي من بلدة شادباغ، المشهورة بعنبها الى كابول وهي الرحلة التي ستقرر مصير باري وعبدالله والاب والى الابد. وكان لا بد من الاشارة للاسطورة ببعض من التفاصيل لان الاحداث التي تلت مبنية عليها. فالاسطورة هي عن الذاكرة وقدرتنا نحن البشر على الاحتفاظ بها او نسياننا المتعمد للماضي وفي احيان اخرى تعلقنا بخيوط واهنة منها، فنحن من نقرر مصيرنا ونصنع حياتنا، ونحن مسؤولون في النهاية عن خياراتنا عندما نختار ما نختار. وحسيني يرى ان الخيار الانساني قد يتشابه ويتداخل، فقد نلتقي في محطة من المحطات، لكن علينا القبول بما اخترناه. بنى حسيني روايته على نوع من التصاعد الجيلي، الذي يحاول فيه الابناء اكتشاف اسرار الاباء كل اب او ام يحملون في داخلهم ‘مناطق’ لا يعرفها الابناء الا بعد موت الاب، وفي العادة ما يتم الاكتشاف من خلال رسالة، وصية او مكالمة هاتفية. فالرواية تبدأ من شادباغ بالرحلة التي يقوم بها الاب صبور مع ابنه عبدالله وابنته باري، والسبب هو العمل في بيت احد الاثرياء هناك وتعمير اجزاء من بيته، ولا نعرف السبب الذي يجعل من اب يأخذ معه ابنته الصغيرة وابنه وهو في رحلة عمل. وكما سنكتشف لاحقا فالرحلة كانت غطاء ‘لبيع′ ابنته الصغيرة لعائلة سليمان وحدتي الثرية، والتي تمثل افغانستان المتحررة والمتطلعة للغرب في ذلك الوقت، والشخص الذي رتب الصفقة هو نبي الذي كان يعمل سائقا وطباخا لدى السيد سليمان، لان زوجته المتحررة والشاعرة لا تستطيع الانجاب، فباري ستكون الابنة المتبناة لعائلة وحدتي. نبي هو شقيق باروانا، زوجة صبور التي تزوجها بعد وفاة زوجته ام سليمان وباري (يعني الحورية الصغيرة). ويتساءل الواحد منا لماذا لم يأت نبي بسيارة سيده للقرية، كما كان يفعل كل وقت، واخذ الاب وسليمان وباري الى كابول بدلا من السفر بالبرعلى عربة. والاختيار مهم لان الاب صبور وهو مقبل على قرار كبير كان يريد منح نفسه فرصة للتفكير. ولعل خوف الاب من موقف ابنه سليمان الذي كان متعلقا باخته ربما كان وراء السفر برا وحتى لا يكتشف سر الرحلة الطويلة. لكن سليمان كان يعرف ان هناك امرا مبيتا ويخشى ان يقوم والده بتركه واخته في البرية. ويظل يغني لاخته ‘وجدت حورية حزينة في ظل شجرة من الورق… وجدت حورية حزينة.. رمتها الريح في احدى الليالي’. مهما كان فباري تظل بعد رحيل الاب وسليمان للقرية في عهدة نيلا وحدتي زوجة سليمان، حيث تتغير حياتها.

كلنا نحمل اسرارا واثاما

تكشف رواية حسيني عن مستويات من الاسرار والنكبات في حياة كل بطل من الابطال، فبروانا زوجة صبور الثانية جاءت اليه وهي تحمل اثما ارتكبته بحق اختها معصومة التي دفعتها من على جذع تينة كانتا تجلسان عليه وانتهت معصومة مشلولة. وهذه المعصومة كانت تحب صبور وترسل له الرسائل(هنا يؤكد حسيني ان الفتاة كان لها حظ من التعليم حتى في ذلك الوقت)، ولعل قرار نبي شقيقهما الرحيل الى كابول ربما كان فرارا من الواقع المؤلم حيث تركت بروانا كي تكفر عن اثمها برعاية اختها، حتى تزوجت من صبور. وقد اختارت معصومة نهايتها، لا نعرف ان كانت انتحرت ام لا، لكنها تركت في البرية وحدها مع نارجيلتها.

الحب المحرم

تتعرض رواية حسيني الى مسألة الحب المحرم في كابول في منتصف القرن العشرين، وقد تم عرض المسألة من خلال شخصية نيلا وهي ابنة دبلوماسي افغاني كان يعمل في بلاط الملك تزوج من فرنسية، ونيلا تمثل الفتاة المتمردة على التقاليد والجسد، وهي شاعرة معروفة يتم الاحتفاء لاحقا بها في فرنسا. وتحررها قادها الى اقامة علاقات محرمة مع كل رجل في كابول، على الرغم من محاولات والدها ردعها بالتهديد والضرب والحبس واخيرا عملية اجريت لها في الهند، بعد اصابتها بمرض، وارتبطت العملية بعدم قدرتها على الانجاب وكان هذا سببا في طلبها تبني باري. لكن زواجها من سليمان وحدتي، الرجل الهادىء المنعزل الفنان وصاحب البيت الكبير الذي ورثه عن والده، كان مدعاة لحديث المجتمع الراقي في كابول في تلك الفترة. لم يكن الحب هو الذي ربط بين نيلا وسليمان، بل كان زواج مصلحة تخلص كل واحد منهما عبره من ضغوط المجتمع. وحتى داخل العلاقة كانت هناك مشاعر حب محرمة كان يحملها سليمان تجاه سائقه وطباخه نبي الذي ظل معه حتى النهاية، طوال الحرب واثناء طالبان. فقد اكتشفت نيلا ان كل الصور التي يرسمها سليمان هي لنبي الخادم الوسيم، وكانت اخر كلمة قالتها لنبي ‘بسببك’ رحلت. ربما كان هذا تبريرا لتخليها عن سليمان، حيث هربت مع باري الى باريس لتبدأ حياة جديدة ومتقلبة، ادمنت فيها على الكحول وانتهت نهاية مأساوية. ولعل قسوة نيلا على سليمان انها تركته بعد ان اصابته جلطة اصبح فيها قعيد الفراش ومن هنا كانت وصيته بمنح نبي البيت الذي ظل معه حتى النهاية (عام 2009) دليلا على الامتنان. كان رحيل نيلا او مامان كما كانت تناديها باري الى فرنسا، محاولة منها لحماية الابنة بالتبني وبناء حياة جديدة لها. ستكبر باري وهي تحمل في داخلها نصف الاغنية التي غناها لها شقيقها عبدالله في تلك الرحلة الرهيبة لكابول، وستكبر لا تعرف انتماء الى بلد غير فرنسا مع انها كانت واعية لجذورها الافغانية. وكانت تعرف ان في حياة امها سرا فسر تلك العلاقة المضطربة بينها، فعدم التشابه البيولوجي بينهما وعدم التقارب في الاهتمامات جعلها تقع في حب علم لا علاقة له بالشعر حيث درست الرياضيات وبرزت فيه واصبحت استاذة جامعية. وعلى الرغم من حنينها لافغانستان ومحاولتها زيارتها مع زوجها الا ان الاولاد والهموم اليومية جعلتها تنسى العلاقة معها، وعندما تكتشف حقيقة ان نيلا لم تكن امها الحقيقية لم يغير هذا من واقع امرها، وحتى البيت الذي تركه باسمها نبي قررت ان لا تبحث فيه الا عن بعض ممتلكات والدها بالتبني وتركته للمنظمات غير الحكومية التي كانت تعمل منه كما فعل نبي من قبل حتى ابناؤها وبناتها لم يكن حضور افغانستان في حياتهم معنى واضحا فقد انطلقوا في حيواتهم بعد وفاة والدهم وترمل امهم. امر وحيد لم يتغير هو ان باري ظلت تبحث عن نصف الاغنية ومصير عبدالله الذي غادر شادباغ الى باكستان وهناك تزوج من سلطانة حيث هاجرا الى امريكا وافتتح مطعما افغانيا هناك ورزق بابنته التي اسماها على اخته التي ضاعت منه باري، وفي نهاية الرواية تلتقي باري العمة مع باري ابنة الاخ حيث تكتمل الرحلة ولكن بمعنى اخر هو المنفى وفقدان الشهوة او استحالة العودة للوطن، فقد اضحى المنفى بهذا المعنى وطنا وولاء.

مستويات متعددة للانتماء

تكشف رواية حسيني عن عدد من المستويات من الانتماء لافغانستان، هؤلاء الذين اصبحت افغانستان لهم مجرد هوية وذكرى بعيدة، ومن عادوا بعد خروج طالبان بحثا عن ممتلكاتهم الضائعة حيث عثروا على وطن مختلف جعلهم اولا يشعرون بالمسؤولية تجاهه واهمية العودة والمساهمة ولكنهم لم يكونوا مستعدين التخلي عن المكتسبات التي حققوها في المنفى، العيش الرغيد، البيوت والمناصب العالية، وقصة تيمور وادريس تكشف عن مدى التناقض خاصة ادريس الذي وعد بمساعدة فتاة مصابة في المستشفى ونقلها الى امريكا للعلاج ولكنه تراجع واكتشف محدودية قدراته فيما كان ابن عمه ومنافسه قادرا على حل مشكلتها فيما بعد. وتظهر قصة ادريس وتيمور العلاقة الملتبسة للمهاجرين واللاجئين ممن حققوا انجازات في الخارج وممن يريدون اقناع انفسهم بانهم يفعلون شيئا لبلدهم دون ان يتخلوا عن رغد الحياة في الغرب. وقصتهم تختلف عن بابا جان الجهادي السابق الذي اصبح امير حرب وجزءا من النخبة الحاكمة والفاسدة، حيث يغطي فساده بالعمل الخيري، وخدمة سكان المنطقة، ونكتشف قصة خداع الجهادي هذا الذي لا تغادر المسبحة يده من خلال ابنه عادل الذي يعيش مع امه في بيت كبير من عشر غرف وحمام سباحة ولديه كل ما يحلم به اي طفل في العالم الغربي، لكنه يشعر بالملل وحياته رتيبة، فهو يعيش في سجن لا يسمح له بالخروج الا بحراسة. حياة عادل تتغير بوصول غلام مع والده الذي يلاحق بابا جان في امر. غلام يكشف لعادل حقيقة والده وانه ليس خيرا بل تاجر مخدرات ومغتصب للارض التي تعود لوالده وجده صبور. فالحكاية ان بابا جان باسم تطوير شادباغ استولى على كل شيء وجرف الاراضي وكروم العنب التي لا تنبت الا في القرية ولم يبق منها الا اطلال المطحنة. ومثل بقية الابطال يحن عادل للخروج من سجنه واكتشاف العالم كما اكتشفه غلام الذي ينام في العراء بسبب والده. وعليه فقصة بابا جان هي قصة افغانستان كرزاي وقصة المستفيدين من الفساد والنخبة الجديدة التي تستند على تاريخها الماضي وتبرر سرقتها وفسادها. في قلب هذه الحكايات تبدو قصة ماركوس، اخصائي التجميل غريبة، فعلاقته بصبور وباري وعبدالله ونبي جاءت من خلال اقامته في بيت وحدتي، لكن قصته لا تنفصم عن قصص ابطال الرواية من البحث والهروب من واقع الجزيرة الهامشي، وعلاقة ملتبسة مع ام متسلطة وصديقة ثاليا تشوه وجهها وهي صغيرة وجاءت في زيارة مع امها الممثلة مادلين للجزيرة ‘تينوس′ واقامت فيها على الرغم من العروض التي تلقتها من زوج امها للدراسة في الخارج، فهي التي تخشى من نظرات الناس لوجهها ظلت مع والدة ماركوس فارفاريس، فيما قرر الاخير الرحيل في العالم لاكتشاف نفسه. وانتهى به الامر في كابول بعد ان تخلى عن كل شيء في اثينا حيث كان يعمل.

تحمل رواية حسيني الكثير من ملامح النضج وهو ان بدا احيانا دعائيا للذين يخدمون افغانستان من الاجانب، ومتحيزا ضد دمشق والقاهرة والقنوات العربية التي تعتبر الاحسن والاسوأ الا ان روايته تعيد الاعتبار في النهاية لبلده وثقافته وتحتفي بما فيه، فالكاتب يتحرك بين الامكنة والازمنة ولا يلتزم خطا زمنيا واحدا للسرد فهو يعود للوراء ثم للامام والعكس. ويعطي ابطاله الافغان فرصة للتحدث بكل لغات العالم الا البشتون او الفارسية التي يعطيها الكاتب سيادة على البشتون، وحتى هذه الفارسية تنساها باري في زحمة حديثها بالفرنسية او الانكليزية.. ولعل اهم ما في الرواية انها عن رحلة بحث اناس يمكن ان ينسبوا الى اي بلد في دواخلهم عن معنى الوطن والذاكرة والعلاقات الانسانية والخيارات والمصير.

And the Mountain Echoed

Khaled Hosseini

Bloomsbury/2013

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى