ثقافة اللاعنف: تكسب الحرب دون ان تشعلها!
مطاع صفدي
ثقافة اللاعنف التي جسدتها ثورات الربيع العربي لم تكن لتنتصر بعضُ وقائعها من دون أن تفجّر أقصى ما يختزنه عدوُّها الاستبدادُ من وسائل عنفه الذي اعتقده لا محدوداً. لكنه سرعان ما استنفده كمّيات وأنواعاً من الإبادات الفردوية والجماعية، مصحوبةً بأقصى تقنيات التعذيب لأجساد الرجال والنساء والأطفال. ما يعني أن ثورة اللاعنف يجب أن تولّد نوعَ المقاومة التي عليها أن تربح الحرب دون أن تشعلها. فتحاذر ألا تنزلق إلى أية وسيلة مختلفة عن غايتها؛ ثورة اللاعنف هي في استمراريته، لأنه من طبيعة إنسانية ضامن لمستقبلها، غايتُها كامنة في وسيلتها؛ كما يقول غاندي: أن الشجرة هي في البذرة. لكن العنف هو دائماً من طبيعة مادية قابلة للاستهلاك والنفاد، هي من تراكميات ماضية لأفاعيل الاستبداد عبر مرحلة ما قبل الثورة.. وإلى حين اندلاع المقاومة الآتية بنهاية مستقبله.
يبلغ العنف أوجه كلما اقتربت نهايته، كلما تراكمت سدَّت أجسادُ ضحاياه سُبلَ النجاة أمام جحافله الزاحفة. يحدث هذا لها قبل أن تمسي فلولاً هاربة. معارك سورية اليوم تُعلي من مشهديات النضال اللاعنفي ما فوق كل الصراعات الدموية، حتى تلك التي قد تجرّ بعض السلميين إلى وقائع سيئة يكرهونها، وإن كانت باسم الدفاع عن النفس، للذات وللآخرين من متظاهري الليل والنهار في معظم الجغرافية السورية.
فالثورة في هذا القطر لا تقاتل أعداءها وحدهم بالصدور العارية والهتافات المباشرة. هنالك قوى طفيلية كثيرة، محلية وإقليمية ودولية، تتزاحم في هوامشها، وقد تتسلّق بعضَ أعمدتها الشاهقة، كيما تتخاطف بعض أعلامها وشعاراتها، فقد قيل منذ عقود الصراع المباشر مع إسرائيل أنه لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سورية، واليوم سيُقال أنه لا ثورة لربيع عربي بدون مصر، ولا مواسم ديمومة وازدهار أمامها، لهذه الثورة بدون تحرر بلاد الشام والرافدين. من هنا ينبغي فهم هذا التصعيد للعنف العسكري المباشر للجيشيْن المصري والسوري معاً. كأنهما منخرطان سوية فيما يشبه إعلانَ حربٍ، ملحقٍ بممارسةٍ، لها صنْفها الأهلي المكروه دون لبس أو قناع.
النظام العربي وما وراءه دولياً قرروا الارتداد بالقوة المادية المنظمة والعظمى على المشروع المحوري المتجدد لجناحيْ النهضة العائدة اختلافياً بنيوياً هذه المرة. من قواعدها الشعبية الشبابية، التي كان جرى تحييدها وعزلها طيلة نهضة الاستقلال المجهضة، والممنوعة حتى انطلاقِة الربيع الراهن.
فلا يزال هذا الربيع يدهش العالم. صمود الشعب السوري يحوّله عنفُ النظام إلى أسطورة. لكن هذا الشعب لا يتخلى عن حق الدفاع عن النفس، ولو باستخدام الحد الأدنى أحياناً من الأسلحة الخفيفة في أيدي الجنود المنشقين، ومع ذلك فإن الشعب يدفع يومياً فاتورة القتلى والجرحى والمعتقلين والمهجرين، دون أن يتنازل عن حق الثورة بديمومتها واستمرارها حتى بلوغها حقَّ الانتقام المشروع بمعاقبة حفنة المجرمين القتلة، بإسقاط نظامهم الأسروي المافيوزي.
تقول أمريكا أن نظام الأسد لا يستحق أن يحكم، هذه العبارة يجب أن يفهم منها الشخص العادي أن النظام لم يعد فاقداً للمشروعية السياسية، بل للمشروعية الأخلاقية بل الإنسانية، فقد انتقلت آلة القمع من ملاحقة الأفراد إلى قتل الجماعات، من إرهاب الأحياء والشوارع، إلى اجتياح المدن والقرى، من تعذيب الرجال إلى قطع أوصال الأطفال. من حصار البيوت إلى تدميرها على رؤوس ساكنيها؛ فما هو الوصف السياسي الأسوأ أو التحديد الجرمي الذي لم تتجاوزْه بعْدُ قيادةُ هذا النظام. ليس هو جنون الدم وحدَه الذي يأخذ بعقول هؤلاء الثلاثة أو الأربعة من جلادي الأسرة المتسلطة وأتباعها، بل هو ذلك الجنون المتذاكي الذي يوهم أصحابه أن تحقيق النصر سيتكفل بدفن مقابره إلى الأبد. ولكن من يجيب هؤلاء أن العرش المنصوب فوق جبل من الجماجم لن يكون إلا هيكلاً عظيماً من جنس أمواته فحسب.
الأمر العجيب في أحوال طغمة البطش هذه، أنه كلما عمد حلفاء أو أصدقاء النظام، عرباً أو أجانب، إلى طرح سبل الفرص والمهل والمبادرات أمامه، لتجنّبه مصيرَه الأسود، كلما عمد هو إلى تعزيز مقدمات ومحفزات هذا المصير، فارتكاب مجازر المدن والأحياء، في أوسع مشهدية إعلامية تحت أنظار رأي عربي ودولي متحفز، منتظر لحصائل مراقبي الجامعة، هذه المسرحة الدموية الرهيبة المستفزة لضمائر الأبعدين قبل الأقربين ألا تُنهي مهمةَ المبادرة قبل أن تبدأ، ألا تقدم البرهان الأوضح عما يبحث عنه المراقبون، قبل أن يشرعوا في أي خطوة من تحركهم الميداني المنتظر، مرة أخرى تهزم وقائعُ الدم البريء المهدور دبلوماسيةً إقليمية ودولية خبيثة وعاجزة. سلاطين العرب والعالم يريدون أدلة قاطعة على جرمية النظام المافيوزي قبل أن يقرروا استبداله بنظام آخر من جنس سابقهِ، من غير وجوهه وأسمائه فقط، يكررون ما يفعلونه بالنسبة لحكام ليبيا ومصر الجدد… والقدامى. كأنما مقتلة بضع مئات من المدنيين والعسكريين المنشقين، خلال أقل من يومين قبيل وصول الرقابة العربية العتيدة، لا تكفي لتوثيق أدق شهادة وفاة مبرمة لحالة براءة مفترضة للنظام قبل الإدانة المطلقة. لو كان هؤلاء السلاطين جادين حقاً لأعلنوا أن مبادرة الجامعة العربية قد أنجزت مهمتها. كفاها أهلُ النظام مؤونةَ البحث والتجوال ما بين مواقع (الاضطرابات). ولما كان السلاطين لن يُقدِموا على مثل هذه المجازفة الخطيرة، غير الدبلوماسية، فإنهم سوف يثبتون من جديد أنهم لم يكونوا أبداً شهوداً حياديين في الأقل طيلة الشهور العشرة الماضية، كما كانوا يدعون، وذلك لنقص.. المعلومات الموثقة(؟)، لكنهم لن يكونوا، بعد الواقعات الكارثية الأخيرة، المتمتعة بشهادة خصائص الفضيحة العالمية غير القابلة للدحض أو التعمية.. لن يكونوا أقل أو أكثر براءة من مرتكبيها، ومن حماتهم معاً.
فالربيع العربي لا يستنفر ضده أعدائه المحليين المباشرين وحدهم. إنه خطر شمولي مداهم كإعصار الطبيعة الغاضبة، الذي لا يُمهل، لا يترك أحداً خارجَه حتى يجعله مطاحاً به إلى عيِن، مركزِ دوامته. ما يعني أن الإعصار لا يترك ثابتاً مستقراً في مكانه، يشيل يخلط الأشياء والبشر والشجر والحجر. إنه إعصار الطبيعة الغاضبة، تناظره الثورات الموصوفة بالتاريخية حقاً. ولكنْ، حتى لا ينهض ربيعُ العرب إلى سوية الإعصار التاريخي، تتكاثف دونه وحوله، وعليه رمال الصحارى من كل جانب، لعلّها تطمره أو تبدّده.
فليس كالدبلوماسية النفطوية عدوةً حقيقية لواحاتها في صحاريها عينها، فكيف إنْ فاجأتها الأعاصير من كل جانب، نقول هذا لأن الربيع العربي ينتشل مجدداً الخطوط الفاصلة الحادة التي كادت تضيع معالمها ـ تحت الرمال عينها ـ لكنها هي الثورة التاريخية الحقيقية بقوة شبابها، وحدهم من دون أية وساطة أو وصاية بشرية أو (ورقية)، يدعيها محاربون قدامى أو تسوِّغها آياتُ مؤدلجة؛ سوريةُ الثورة غير قابلة لتكرار التجربة الليبية، بالواسطة الأطلسية، ولا باستنساخ التسوية اليمنية تحت الوصاية الخليجية.
حيوية الثورة السورية غير آبهة بمبادرة الجامعة العربية، تعطيها اسمها الواقعي: بروتكول الموت. لم يأْتِها هذا الإسمُ المشؤوم ترميزاً لمرحلة إعداد المبادرة، وأرقام قتلاها القياسية في مواقع الصراع فحسب، لكنه يأتي علامة النذير بالمقتلات القادمة الأفظع، ذلك أن المسعى الفعلي المقرّر ضمنياً لحراك هذا البروتكول، بمكوناته المنظورة وغيرها، هو تعويمُ شرعيةٍ جديدة للنظام مقابلَ تنازل الثورة عن انتفاضاتها اليومية، وذلك تحت يافطات متكاثرة من شعارات الحوار والتهادن وربما.. التصالح.
كأنما لم يحن الوقت بعْدُ لتسليم النظام إلى مصيره. تلك المُهَل القاتلة، المتناسلة من بعضها، المعطاة له إقليمياً ودولياً، تدلّ على حقيقة واحدة، وهي عدم اليأس من جدوى النظام ومنافعه لأعدائه الصوريين. وقد دلّت تجارب إقامته الطويلة في سدة الحكم أنه كان جديراً بالثقة الممنوحة له. فكان شعاره: البقاء مقابل أي شيء، ضامناً لنجاته من الأفخاخ التي تساقطَ فيها وتجاوزها.
أمّا أنْ يواجِه هذه الثورةَ يوماً ما، فذلك من أبعد كوابيسه عن مخياله. كان أصعب ما يصدم عقلَه المرتبك هو أنها ثورة شعب، وليست تمرّد فئة، أو حزب، وأن سلاحها الوحيد هو سلميتها التي لا تتزحزح (الثورة) عنها قيد أنملة، بالرغم من كل محاولات توريطها في مقتلات سياسية وإرهابية؛ الأمر الذي دفع أهل النظام إلى اختراع صنف القوى الإرهابية الأخرى، كجهة ثالثة بين النظام والثورة، يمكن أن توصم بها الثورة وحدها يوماً ما. تفجيرُ مركزيْ الأمن الخطيرين أخيراً قد يجيء ذروةً أولى في هذا السياق من ألعاب ديموغاجيةِ الرعب والموت الجماعي.
كل ثورة بيضاء إنسانية في التاريخ قد يترصّدُها مستنقعُ الدماء، الذي عليه أن يطيح بإنسانيتها المثالية تلك. والربيع العربي عاش سنته الأولى مُهدَّداً بكل نوع من المقتلات الاضطرارية والمفتعلة. لكنه مع ذلك، لم تثبت وقائعه، ولم تتحول إنجازاته إلى نوعِ ثقافة العصر التي يتلقفُها ثوارُ العالم الجدد.
إلا لأن هذا الربيع جاء مبشراً بعودة إرادة المبادرة، في التغيير الجذري، إلى أيدي الشعوب، لاغيةً بذلك صنوف الوكالات الفوقية، السابحة على سطوحها والمدعية لصناعة عقول الناس، والقائدة لمشاريعها الجماعية. فقد أنهى ‘الربيع’ تبعية الشعوب لأساطير أقليات مستبدة بالأغلبيات في سياق استراتيجيات شبه كونية تحت طائلة حضارة العنف وحدَها، فهي الحارسة والمحروسة بأسلحة التدمير الشامل، معدنياً مادياً، أو إنسانياً فكرياً، وإعلامياً.
سنة أولى من عصر الربيع العربي، ولِدَ ليبقى. ويبقى لينتج مواسمه حتى ولو تكالبت عليه شتاءات العصور المظلمة السابقة عليه، والمتحدية له في عقر أوطانه ودياره. فلا يزال يتوج صدورُ الشباب المفتوحة بأزهاره، وقد ينشر بعض ورودها البيضاء على قبور شهدائهم الأبرار المجهولين..
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي