ثلاثة أشهر حاسمة/ عرفان نظام الدين
تبدو الأجواء على امتداد العالم العربي، مكفهرة وتنذر بقدوم موجة جديدة من العواصف العاتية في ظل انعدام الرؤية وغياب البصيرة وتضخم حالات مشاعر اليأس والإحباط التي تعيشها الشعوب ويروج لها البعض بأنها وصلت إلى طريق مسدود لا أمل بعده ولا انفراج.
شذوذ وتهور، تعصب وتطرف، دماء ودمار، فشل في حسم الأمور عسكرياً وأمنياً وسياسياً من جانب الأنظمة والمعارضات، تشريد الملايين من ديارهم، قتل بالجملة ومذابح مشينة، اعتقالات وتعذيب وتغييب وخطف وإخفاء، هدر للثروات وتدمير كل ما بنته الأوطان والشعوب من عرق جبينها ودم أجيالها وجهود أبنائها.
هذا المشهد الدرامي المحزن والمبكي تبدو فيه الأحوال كأنها دخلت في عنق الزجاجة، ولا سبيل للخروج منها بعدما شهدنا خلال الأعوام الثلاثة الماضية وحشية ما بعدها وحشية، وإجراماً لا سابق له على مدى العصور، وممارسات شائنة ومعيبة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً في أحلك الظروف، ومواقف متعنتة لا تقبل بأي تنازل أو بحل وسط، بل بإمعان في التصرف بمثل هذه العقلية السادية المريضة بلا وازع من ضمير، ولا رادع ديني أو أخلاقي أو إنساني.
وعلى رغم هذه النظرة البانورامية السوداوية، يمكن الحديث عن نور في نهاية النفق، في حال وصلنا إليه، ليبنى عليه الأمل في بدء تصحيح المسار والبحث عن حلول في رحلة الألف ميل الصعبة، وإلا فإن الآتي أعظم ولا يبقى في اليد حيلة إلا الاستسلام لليأس وانتظار معجزةٍ لا يغيّر الله فيها ما بقوم إلا إذا غيّروا ما بأنفسهم.
هذا النور يستند في شعاعه إلى سلسلة أحداث مرتقبة خلال الأشهر الثلاثة المقبلة في معظم الدول العربية التي أطلق على أحداثها وثوراتها اسم «الربيع العربي»، على رغم أن هذا الربيع تحول بسحر ساحر من الزهور والرياحين والأريج وبشائر الخير وجنى المحاصيل والأمل والفرح… إلى روائح البارود القاتل والدم المهدور والدموع واليأس والأحزان وضياع جنى العمر وتشريد الملايين ونحر فلذات الأكباد.
البداية من مصر حيث وصلت معارك الشد والجذب إلى ذروتها بين النظام الانتقالي و «الإخوان المسلمين» عبر التظاهرات والتفجيرات والتشنجات وتبادل الاتهامات والمحاكمات والتدهور الاقتصادي. لكن نسمة الأمل ما زالت قائمة بحدوث انفراج قريب يمهد لاستعادة الاستقرار إلى الكنانة، وبدء مرحلة إعادة البناء وتعزيز الأمن وإدارة حوارات بناءة للخروج من هذه الأزمة الدموية وإعادة تظهير الصورة الحقيقية الجميلة للشعب المصري التي تقوم على الصبر والتسامح والتعايش في ظل الوحدة الوطنية.
هذه النسمة تنتظر حسم معركة انتخابات الرئاسة ووصول المشير عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع السابق، إلى سدة الحكم، مدعوماً من الجيش الوطني وغالبية الشعب المصري التي وضعت ثقتها به ووجدت فيه المنقذ ورأت أن الجيش هو صمام الأمان والمرجع الوحيد القادر على إنقاذ مصر من المجهول وإفشال المؤامرة الكبرى التي استهدفتها وحاولت مراراً تركيعها لضرب القوة العربية الكبرى وبيضة القبان في ميزان المنطقة. وهذا ما دفع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، باستثناء قطر، إلى دعم مصر بكل الوسائل بعد ثورة ٣٠ حزيران (يونيو) والوقوف إلى جانب الشعب المصري في محنته انطلاقاً من مبدأ «قوة العرب من قوة مصر».
أما في سورية، ففسحة الأمل أضيق وأكثر تعقيداً وأبعد في نورها وأملها نظراً إلى فداحة الخسائر وحجم الدم المسفوك، لكنها تتمثل في حسابات دقيقة تتعلق بالتوازنات في ساحات القتال واحتمالات التحرك الجدي من أجل بدء حوار شامل بإشراف دولي يتوج بعقد مؤتمر «جنيف – ٣» على أسس واضحة ووفق أجندة وجدول زمني محددين يتم الاتفاق عليهما مسبقاً.
والأمل يبنى على ٣ أحداث متوقعة خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وهي:
– حلول موعد انتهاء ولاية الرئيس بشار الأسد في تموز (يوليو) المقبل، وحسم الأمور بالنسبة إلى إجراء انتخابات رئاسية بغض النظر عن اعتراض المعارضة والمواقف الدولية المنددة، أو في حال بدء الحوار للاتفاق على مرحلة انتقالية يتم بعدها تقرير موضوع الرئاسة وشكل الحكم، إلا إذا تم إيجاد مخرج دستوري لتجديد الولاية الرئاسية بذريعة الظروف القاهرة التي تمر بها سورية منذ ثلاثة أعوام ونيف.
– توقع الكثير من المراقبين والمحللين أن تسفر أزمة أوكرانيا عن حوار أميركي – غربي مع روسيا يجرى فيه عقد صفقة تتناول معظم القضايا الدولية، وفي مقدمها الوضع في سورية، ويتوصّل فيها «الكبار» إلى حلول قد تكون على حساب الأنظمة والشعوب والدول كعادتهم على مدى العقود في مجال تقاسم مناطق النفوذ وتأمين مصالحهم ومطامعهم.
– احتمال كبير بأن يتم خلال الأشهر الثلاثة المقبلة التوصل إلى اتفاق نهائي بين الغرب، وأميركا بالذات، مع إيران على مسألة ملفها النووي وإقفال باب العمل العسكري، إلا إذا نفذت إسرائيل تهديداتها وقلبت الطاولة على الأطراف المتحاورة.
هذا الاتفاق قد يتمدد ليشمل مجمل القضايا العربية والإقليمية وعلى رأسها الحرب السورية وأوضاع العراق ولبنان وأمن الخليج وسط أنباء عن قرب عقد قمة سعودية – إيرانية تسعى إلى حل الإشكالات القائمة واستعادة الثقة المفقودة، والتفاهم على القضايا المعلقة.
ومن مصر وسورية وإيران، إلى لبنان المربوط بقضاياها، حيث تتركز الجهود على تمرير «قطوع» انتخابات الرئاسة بسلام ويسر وسهولة وتوافق. فبدءاً من اليوم ينطلق العد العكسي للانتخابات بكل تعقيداتها وسط تباين في التوقعات بين واثقة بأنها ستتم حتماً في مواعيدها الدستورية وأخرى ترجح التوصل إلى تفاهم محلي – عربي – إقليمي – دولي على التمديد للرئيس ميشال سليمان لفترة قصيرة حتى تنجلي الأمور وتهدأ النفوس، وهو ما يستبعده البعض بسبب معارضة «حزب الله» للتمديد ومساجلاته مع الرئيس.
وأخيراً، هناك توقعات متشائمة تروج لصعوبة إتمام الاستحقاق الرئاسي ودخول البلاد في حال فراغ تترتب عليه نتائج سلبية وخيمة على الوضع السياسي والأمني والاقتصادي، على رغم التمهيد لسد الفراغ بمنح حكومة الرئيس تمام سلام الثقة لتتولى إدارة البلاد خلال فترة الفراغ، بانتظار كلمة السر من الخارج المتعدد الطرف والاتجاه والمصلحة.
وما ينطبق على لبنان يمكن تعميمه على الدول الأخرى، مثل اليمن الذي ينتظر حسم أموره العسكرية وحالات الانفلات الأمني وحروب «القاعدة» و «الحوثيين» ضد القبائل والجيش مع إمداداتهم الإيرانية وتصاعد الدعوات في الجنوب إلى الانفصال. وإذا نجح الحوار الجاري حالياً خلال الأشهر الثلاثة المقبلة في تهدئة النفوس، وإحلال الأمن نسبياً يمكن المضي في جهود المصالحة الشاملة وصولاً إلى تنفيذ مشروع الفيديرالية تلبية للمطالب المتزايدة للمناطق.
والعراق أيضاً ينتظر حسم أموره خلال هذه الفترة الزمنية الخطرة من وضع حد للمعارك المشتعلة بين النظام و «داعش» – «القاعدة» من جهة، وبين حكومة نوري المالكي والعشائر العراقية من جهة ثانية، أو في تعبير أدق ما يروج له بأنه صراع بين المكون الشيعي والمكون السنّي الذي ينذر تصاعده بتحوله إلى فتنة مذهبية بغيضة.
تبقى ليبيا وتعقيداتها، فهي أيضاً تنتظر الحسم بين السلطة الانتقالية الهشة والميليشيات التي تمسك بخناق البلاد، أو بين دولة الوحدة، أو ما تبقى منها، وبين القوى الانفصالية في برقة وغيرها التي تطالب بالتقسيم والسيطرة على حقول النفط وسط دعوات لإعادة النظام الملكي الضامن وحدة البلاد والعباد في ظل حكم ديموقراطي عادل في انتظار إجراء انتخابات عامة تنهي إشكالية شرعية المجلس الوطني ومعها صراعات الاتجاهات ودور الإسلاميين وعلى رأسهم «الإخوان المسلمون».
هكذا، يبدو واضحاً من خلال هذا الاستعراض للأوضاع الراهنة والتوقعات، أن الأمل منصب على ما سيجرى وما سيحسم خلال الأشهر الثمينة المقبلة وما بعدها. فإما أن يستمر التوتر ويتواصل الانحدار والبدء في جولات جديدة من العنف والاقتتال، أو أن تبدأ مرحلة جديدة، مرحلة الحلول الناجعة ورحلة البحث عن المخارج.
الكل ينتظر والشعوب تقف على مفترق طرق للخيار بين الحل الكامل والدمار الشامل!
* كاتب عربي
الحياة