ثلاثة مقالات عن بشار الأسد لعبد الرحمن الراشد
بشار بين شخصيتين
عبد الرحمن الراشد
عشر سنوات مرهقة عاشتها سوريا من حكم بشار الأسد جعلتها في عين العاصفة. ومن الطبيعي أن نتساءل لماذا اختار هذا الشاب الطريق الوعر، وقاد بلاده في زمن خطر على حافة الهاوية؟ فوالده حكمها متكئا على المعسكر السوفياتي الذي أمن للنظام الحماية الإقليمية، وحتى في ظل الحماية السوفياتية لم يرتكب مغامرات خطرة منذ وقع اتفاق الهدنة مع إسرائيل. لماذا اختار بشار التحالف الخطر مع إيران المنبوذة في وقت كان فيه العالم يتطلع إليه على أنه الوجه الحديث المنفتح لسوريا؟ لماذا تورط نظامه في معارك دونكيشوتية حتى سجلت ضده ثلاثة قرارات دولية خطيرة، في حين أن أباه غادر الحكم بالقليل من المشكلات مع المجتمع الدولي؟
ما يجعلني أستغرب أن شخصية الأسد الهادئة الذي التقيته عدة مرات تختلف عن شخصية سياسته المتوحشة. مقابلتي الأولى له صادفت بعد أيام قليلة من «انتحار» رئيس الوزراء محمود الزعبي، الذي وجد مقتولا في بيته في دمشق في صيف عام 2000. الرواية الرسمية ذكرت أن الزعبي، 65 عاما، أطلق طلقتين في الهواء قبل أن يوجه الثالثة إلى رأسه، وكل ذلك جرى بحضور زوجته وأولاده، رواية غير قابلة للتصديق وكأن فيها رسالة للآخرين. زميلي إبراهيم عوض سأل بشار عن ظروف الحادثة الغريبة، رد بأن الزعبي وضع قيد الإقامة في منزله تحت طائلة تحقيقات الفساد، ويبدو أنه في لحظة خوف أو يأس قرر الانتحار. لم تبد علامات صدمة أو حزن على وجه بشار الذي حرص على استخدام عبارة «اللي فهمته» وأوحت لنا أنه لا دراية عنده مباشرة بالواقعة ويرويها كأنها قصة وقعت في بلد بعيد كالسويد.
طلبت مساعدته حتى يسمح لمراسلنا بالذهاب إلى بلدة الزعبي، درعا، لمقابلة عائلته، درعا التي انطلقت منها الانتفاضة الحالية. وافق وأشار إلى مساعده أن يسهل مهمتنا. طبعا، لم يسمح قط لزميلنا أو غيره.
في دمشق تفوح رائحة صراع على الحكم، ففي الوقت الذي كان فيه الأسد الأب مسجى في غرفته في آخر أيامه يحتضر، كان بشار يخوض معركة بعنوان محاربة الفساد، ولم يكن مفهوما آنذاك، ولا اليوم أيضا، ماهية الصراع وأطرافه. الذي علمته لاحقا أن بشار هو من أدار كامل عملية ساعات وفاة والده الحرجة قبل أن تذاع رسميا، من إعلان حالة الطوارئ واستدعاء أفراد العائلة، وتقييد حركة القيادات العسكرية، لم يتفوه لنا بشار بشيء عن صراع الحكم، بل سمعته من مصادر خارج القصر. الحقيقة كان بشار بخيلا في إفشاء الأسرار، وكريما جدا في التحليل السياسي العام.
ومن المفارقات أن بشار المتلكئ اليوم في تنفيذ الإصلاحات التي يطالب بها المتظاهرون هو الذي ضرب على صدره وقال لنا قبل عشر سنوات في أول جلساته إنه يعتزم تغيير المشهد السوري. قالها صريحة؛ يريد معارضة وأحزابا وسيعطي حريات إعلامية. كلام كبير في بلد يمنع النظام الناس حتى من امتلاك جهاز الفاكس الذي انتشر في العالم العربي منذ عشرين عاما. وفعلا عمت سوريا حالة انفتاح مفاجئة، ثم فجأة أغلقت النافذة ولوحق المعارضون وأودع بعضهم السجون، ومن بينهم المعارض رياض سيف. حكم عليه بخمس سنوات سجن لأنه تحدث في مجلس الشعب ضد صفقة الهاتف الجوال طالبا التحقيق فيها. الآن صرنا نعرف أن صاحب الصفقة هو رامي مخلوف ابن خال الرئيس.
في مقابلتي اللاحقة، ونشرت في «الشرق الأوسط»، سألت بشار: أنت من تطوع وقلت لنا تريد معارضة ومحاسبة، أنت دعوتهم للمعارضة وعندما عارضوك سجنتهم اليوم. رد قائلا: «صحيح أنا الذي بدأت رئاستي داعيا إلى النقد. وأعترف أننا لم نصل إلى ما نطمح إليه. وأقر بأننا نحتاج إلى وقت طويل حتى نفعل ذلك. عندما طرحتها كان ذلك كمبادئ ومنهج تفكير، لكن لن نقبل أن نلبس لباسا إذا لم يكن على مقاسنا، فنحن نفصل على وضعنا».
من الواضح أن ثوبه كان ضيقا على وعوده. قال لنا خارج المقابلة، ملمحا للمعارض سيف، إنه هو من كان «يبخر لي أثناء خطاب القسم»، ولم أفهم معنى يبخر، قال: يعني هو اللي كان يهتف لي في مجلس الشعب، ثم اتضح أن أهدافه تجارية لا وطنية، وأن المعارضين الآخرين كانوا يتحدثون في الخلف بغير ما يعلنون. شعرت حينها أن الرئيس صار رهينة التقارير الأمنية.
الشرق الأوسط
الأسد: فشل الإصلاح الموعود
عبد الرحمن الراشد
الأرجح أن للانتكاسة التي أصابت سوريا، بعد ثلاث سنوات على قرارات ووعود الرئيس السوري بشار الأسد الإصلاحية، أسبابا خفية، شخصيا أرجح أن خلفها دخول الأمن على خط القرار السياسي. فقد صار الرئيس بالغ الحساسية حيال ما يقال عنه في الغرف المغلقة، وقد عبر عن خيبة أمله بقوله إنه اكتشف أن هؤلاء ليسوا معارضين صادقين ويدري عن ماذا يتحدثون. لكن أن تدور النميمة والسخرية من السياسيين مع فناجين القهوة في الصالونات الخاصة فهذا أمر طبيعي جدا في كل المجتمعات. حوكم المعارض رياض الترك، الذي سمح له في البداية بممارسة نشاطه السياسي، وكانت الجناية ضده ترويج أنباء كاذبة توهن عزيمة الأمة ونفسيتها، وحكم بسجنه، وبعد نطق الحكم طلب القاضي أن يتناول معه فنجان قهوة! كانت تلك المحاكمة بداية نهاية الانفتاح القصير.
في مطلع رئاسته كنا مستبشرين لأن بشار لم يكن مسؤولا عما جرى في عهد والده، وعمره ودراسته ومظهره، وظهوره في المطاعم بلا حرس مدجج، أشاع مناخا من التفاؤل بأننا أمام سوريا عصرية. بدأ حكمه بزواج فتاة سنية، والدها فواز الأخرس طبيب قلب من طبقة متوسطة، شبه منفي في بريطانيا. كانت الزوجة السنية رسالة مصالحة مشجعة من ابن الطائفة العلوية تؤكد أنه ليس طائفيا. زد عليه أن والدها الذي التقيته في لندن راق لي اندفاعه في نقد النظام القديم مبشرا بأن سوريا مقبلة على عصر جديد. بالفعل، أطلق في الأيام الأولى سراح ستمائة سجين سياسي، وأغلق سجن المزة المروع، وعمت منتديات العاصمة أجواء حرة نسبيا، وإلى نهاية عام 2002 أطلق تسعة مساجين سياسيين، وسميت تلك الفترة بربيع دمشق.
ثم فجأة أطبقت أجهزة الأمن على الحياة وسط إشاعات عن مؤامرة انقلاب من الحرس القديم لم تكن صحيحة، الأرجح أنه كان انقلابا من فوق، مع استمرار التصفيات الداخلية بالعزل والمحاسبة وأحيانا بالانتحار.
وفي خضم أحداث جسام هزت العالم مثل غزو العراق استمر لبنان طبقا رئيسيا في مقابلاتنا. لبنان على الدوام ظل عقدة حكام سوريا. وقد لحظت مرة أحد مساعديه متأبطا كتابا عن تاريخ لبنان، قال مبررا، «يتعين علينا جميعا أن نتثقف في المسألة اللبنانية»! ومرة قال لنا الأسد مبررا اهتمامه، «تاريخيا لبنان كان دائما ممر المؤامرات على سوريا». لسوء حظ المرحوم رفيق الحريري أن الأسد كان قد صنفه كبير المتآمرين.
أظن أن بشار فسر ما يسمع ويرى بأن رجل الأعمال اللبناني هذا يبيت له أمرا. الحريري، هو الآخر، لم يفهم شخصية الرئيس الجديد، فالابن غير أبيه، ينقصه تاريخه وتجربته وولاء رجاله، ولديه مركب من الحساسية الشخصية من صغر عمره، وتوجس من الغير. لا ننسى أنه حتى يرث والده لجأ الأسد الابن إلى تغيير عمر رئيس الجمهورية في الدستور من الأربعين إلى الرابعة والثلاثين. وسمعت أن مقت بشار للحريري سببه ما نما إليه أن الحريري في حديث لصديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك قال له متذمرا، إن «بشار ولد». ما كان الأسد الأب ليبالي بمثل هذه الآراء لأنه رجل استراتيجي التفكير ويستخدم الناس لغاياته، والحريري كان من أدواته الأساسية. أظن أننا تحدثنا عن الحريري في كل المناسبات التي التقيت فيها الأسد الابن. وكان واضحا أنه قد حسم رأيه فيه سلبا، لكن للحقيقة لم نسمع من بشار قط أن تلفظ بلغة بذيئة أو حتى قاسية حيال أي موضوع أو شخص، حافظ على تهذيبه وأدبه حتى في المقابلة الماضية قبل ستة أشهر بعد قطيعة دامت ست سنوات. غدا، قراءتي عن حرب بالوكالة بين الاثنين.
الشرق الأوسط
الأسد: أخطاء وخطايا
عبد الرحمن الراشد
خلال عشر سنوات حكم بشار الأسد استهلك لبنان الكثير من سياسته، حتى صار لبنان هو كعب أخيل الأسد. ولم يتضح لنا عمق التزامه تجاه حزب الله على حساب بقية الفرقاء اللبنانيين إلا لاحقا. ففي البداية كانت هناك معلومات تؤكد أنه فتح أكثر من خط للتواصل مع الإسرائيليين من خلال أشخاص غير معروفين أحدهم ابن أحد وزرائه. لذا، أعتقد أن تحالفه الكامل مع إيران سياسة تطورت مع الوقت، خاصة بعد الغزو الأميركي للعراق، وقد عبر لنا عن مخاوفه ذات مرة جازما أن سوريا هي المستهدفة بذلك الغزو، لأن نظام صدام أصلا في حكم الميت.
حدثنا بسخرية وغضب عما يكتب في «النهار» وضد الحريري الأب. كان يعرف التفاصيل الدقيقة عنه مع شيء من الجهل بشخصيته. وجهل بشار بالمرحوم رفيق الحريري قابله جهل الحريري ببشار أيضا، وهو الذي كان يعرف أسرار الشام في عهد الأسد الأب. الحريري كان يصر على أن مشكلته ليست مع الأسد بل مع بعض المحيطين به، والرئيس إميل لحود.
ثم إن الحريري سبب عقدة للرئيس السوري الشاب، بجاهه ونفوذه واستعراض علاقاته. مرة رتب لنفسه مقابلة مع الرئيس جورج بوش في نفس الأسبوع الذي تمكن الأسد بشق الأنفس من الحصول على دعوة من رئيس وزراء إسبانيا، حيث كان الغرب يوصد أبوابه بسبب موقف سوريا من العراق.
الحريري من جانبه لم يكن يلتقط إشارات الأسد، اكتشفت هذه الحقيقة في حادثة محرجة، فقد كان بيننا وبين مكتب الرئيس السوري اتفاق على نشر تصريحات خاصة، شريطة ألا نفشي اسم المصدر، كنا ننسبها غالبا إلى «مصدر سوري مسؤول»، رسائل أو إشارات للساسة اللبنانيين، وفي مقدمتهم الحريري. اتصل بي المرحوم محتجا، أصر على أنها أكاذيب من فبركة مدير مكتبنا في لبنان، إبراهيم عوض. أكدت له أنها حقيقية ومن مصدر سوري رفيع، وقلت له بأنني لا أستطيع أن أفشي اسمه.. خذها على محمل الجد. لم يصدقني وسعى لإبعاد الزميل إبراهيم، لكنني تمسكت به. عندما سافر الحريري إلى دمشق سأل عدنان عمران، وزير الإعلام حينها، إن كان ما تنشره «الشرق الأوسط» ضده فعلا مصدره سوري كما تزعم الصحيفة؟ المصيبة أن الوزير الذي يجهل بالاتفاق مع القصر أنكر ذلك، واستدعى مراسلنا في دمشق على عجل وهدده بإيقاف توزيع الصحيفة في سوريا إن ظهر خبر فيه هذا المصدر السوري المسؤول المزعوم. اضطررنا إلى الاستنجاد بمكتب الرئيس وتم استدعاء الوزير وتوبيخه. على أي حال، وكما يقال، خرجت القطة من الشنطة، وانفضح السر للكثيرين إلا للحريري الذي ظل لزمن يظن أن خصمه ليس بشار الأسد، بل لحود.
لا شك أن بشار ارتكب سلسلة من الأخطاء الأخرى، مثل عدائه للراحل ياسر عرفات، وإفساده علاقته مع الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان جسر العلاقة مع سوريا ومهندسها لأكثر من ثلاثين عاما، وأكبر خطاياه هو تمتين علاقته مع الإيرانيين الذين كانوا الفاكهة المسمومة التي أخرجته من الجنة، وتصديه لدولة ضخمة مثل أميركا التي حاصرته.
بعد جريمة اغتيال الحريري، واستمرار مسلسل اغتيال بقية الشخصيات اللبنانية في عملية تطهير لا سابق لها في المنطقة، عم شعور بأن هناك في دمشق من يحرك خيوط اللعبة، اللعبة هنا ربما هي الرئيس نفسه. فجأة سحب سفيره من واشنطن وليد المعلم، الذي عرف باعتداله، ووضعه على الرف تحت وزير الخارجية فاروق الشرع. بعض الدول مثل السعودية رفضت استقبال الشرع لزيارتها، اعتقادا منها أنه منظر سياسة الشر في دمشق. وبعد أن سدت الأبواب في وجه بشار اضطر لتعيين المعلم وزيرا وترقية الشرع نائبا له، وفعلا فرجت مؤقتا، لكن متاعب النظام في بدايتها، أو كما كتب أحد المعارضين السوريين في بداية حكم بشار، أنه مهما فعل فإن مشكلة النظام بنيوية. وزلزال اليوم نتيجة طبيعية، من محكمة دولية إلى محكمة شعبية، أو كما سمتها مي شدياق المحكمة الإلهية.
الشرق الأوسط