صفحات العالم

ثلاث مسائل وشكرا


الياس خوري

1- الشهيد الحمصي: كان الرجل، العشريني مرميا وسط حلقة من الجنود، جسده يرتعش، وروحه تتململ عطشا الى الحياة. فجأة تقدم احد الجنود من الجسد المرمي وركله بحذائه الأبيض، سرت ارتعاشة في الرجل الجريح، ما يدل ان بقايا الحياة لا تزال تسري في الجسد المدمى. تقدم جندي آخر سحب مسدسه واطلق النار، شاهدنا الرصاصات تخترق الجسد، وتزحط على اسفلت الشارع.

همد الجسد، وسط نظرات الجنود التي تمتزج فيها اللامبالاة بالتشفّي، ثم اختفت الصورة.

صوِّر هذا المشهد الوحشي في مدينة حمص، وبثته شبكات التواصل الاجتماعي قبل ان ينتقل الى الفضائيات.

حمص التي صارت منذ اسبوع مسرحاً للقتل والنهب والاستباحة، شهدت هذه الجريمة المروعة التي حدثت في الشارع، وامام عين الكاميرا. كانت وجوه القتلة مستطيلة وممسوحة الملامح. لا ادري لماذا لم استطع ان اراهم سوى كالأشباح.

لكنني رأيته، كان كالذبيحة التي تغلب الموت بموتها. وفهمت رمز الخروف المذبوح، ومعنى ان تنتصر الضحية على الجلاد.

شكرا لحمص.

2- انها مصر

فاجأ المصريون انفسهم مرة ثانية. ففي جمعة ‘تصحيح المسار’ التي دعا اليها شباب الثورة، وفي غياب تام للاخوان، عاد ميدان التحرير الى اصحابه الشرعيين، واثبتت الثورة انها لن تستسلم للشكل الانقلابي الذي اتخذته سلطة المجلس العسكري.

قال الثوار ان تصحيح المسار ليس مسألة لها علاقة ببنية السلطة فقط، بل يمس المسألة التي تجاهلها الجميع، وبنى عليها اصحاب نظرية المؤامرة متن خطابهم. طُرح التساؤل عن علاقة الثورات العربية بمقاومة الاحتلال والغطرسة الاسرائيليين، وكان الجواب الجاهز الذي صاغته الديكتاتوريات في كل مكان، من طرابلس الى دمشق، هو ان هذه الثورات مؤامرة امريكية اسرائيلية من اجل ضرب خط الممانعة!

امس في مصر، اثبت التيار الديموقراطي المدني الذي اطلق شرارة ثورة 25 يناير، ان الحرية لا تكون من غير التحرر، وان الديموقراطية هي طريق استعادة الكرامة الوطنية المهدورة.

فكان لا بد للشعب من اقفال سفارة الاحتلال، معلنا ان طريق الحرية لا تزال تحتفظ باسمها الفلسطيني، اذ لا حرية تحت ارهاب الاحتلال والعنصرية والغطرسة.

شكرا لميدان التحرير.

3- تكرار الخطأ/الخطيئة

‘منذ اندلاع الثورة السورية والكلام الطائفي المعلن والمستتر يستفزني. ما علاقة المسألة الطائفية بقضية شعب يطالب بالحرية ويموت في سبيلها؟ وكيف يجرؤ اصحاب اللغة الطائفية المقيتة والسوداء، على الاقتراب من انتفاضة شعبية تميزت بالنبل والصبر والشجاعة؟

استطيع ان افهم لجوء النظام الى تحريض الغرائز كي يجعل من الأقليات الدينية دروعا بشرية لحماية العائلة الحاكمة والمافيا. لذا كان رد الشعب السوري من خلال تنسيقيات الثورة السورية هو رفع شعار ‘الشعب السوري واحد’.

لكن ما لا استطيع فهمه هو لجوء بعض المرجعيات الدينية، وخصوصا في الوسط المسيحي الى التطوع للدفاع عن الديكتاتورية بوصفها حامية للمسيحيين في سورية ولبنان، كأن الأقلية المسيحية تضع نفسها من خلال البطريرك اللبناني الماروني او البطريرك الارثوذكسي السوري وبعض رجال الاكليروس، في صف الاستبداد، وترهن مصيرها بمصير الديكتاتور؟

هنا اريد التذكير بالخطيئة المميتة التي ارتكبتها المارونية السياسية في لبنان، حين استطاعت قوات بشير الجميل التي هيمنت بالعنف المسلح على المناطق ذات الأكثرية المسيحية، ان تفرض تحالفا احمق مع اسرائيل، وان تمشي في ركاب دبابات الاحتلال التي اوصلت بشير الجميل ومن بعده شقيقه امين الى سدة الرئاسة.

كانت تلك التجربة التي شاركت في التنظير لها الرهبانيات المارونية هي اللحظة المفصلية التي ادت الى هزيمة سياسية مروعة للطبقة السياسية المسيحية، بحيث لم تعد تستطيع ان تلعب اكثر من دور الكومبارس في الصراع على السلطة.

كان التحالف مع اسرائيل خطأ باهظ الثمن، وشكّل خيانة وطنية موصوفة، وارتدادا عن كل القيم الاخلاقية والوطنية والسياسية التي صنعتها النهضة العربية. اما ثمنه اللبناني فكان كبيرا، اذ قاد الى حرب اهلية مسيحية- مسيحية، انتهت بالهيمنة المطلقة للنظام السوري على لبنان.

واليوم يتكرر الخطأ نفسه ولكن بشكل كاريكاتوري. استطيع ان اتفهم ان عظامية الجنرال عون وشهيته للسلطة دفعتاه الى التحالف مع نظام الوصاية الذي ارسله الى المنفى الفرنسي، لكنني لا استطيع ان افهم ماذا يريد بشارة الراعي بطريرك الموارنة الجديد. هل يعتقد الراعي انه بدعمه للعائلة الحاكمة واخافة الناس من حكم الأكثرية السنية في سورية، ومن الاخوان المسلمين، يدافع عن المسيحيين؟ ومن قال له ان رهن الوجود المسيحي بالديكتاتور يشكل ضمانة؟ ثم ما هذه اللغة المذعورة التي تتناسى ان المسيحيين مواطنون اولا وان هذه البلاد لهم مثلما هي للمسلمين؟

ما قاله البطريرك كارثة اخلاقية وسياسية. وهو في هذا لا يستطيع الادعاء بأنه يمثل احدا. فلينصرف الى عمله الديني والرعائي، ويترك للمواطنين مهمة صوغ العقد الاجتماعي الجديد الذي سينشأ على انقاض الاستبداد، وهو لن يكون بالتأكيد عقدا بين الطوائف، بل بين المواطنين كأفراد احرار في دولة حرة.

خطأ اليوم يشبه خطيئة الأمس، انهما تلاعب احمق بمصير الأقليات، عبر استعادة الخطاب الاستعماري القديم. البطريرك الراعي يعرف او لا يعرف، لست ادري، لكنه للأسف يستخدم الخطاب نفسه مقلوبا، وينسى ان الحرية هي الضمانة الوحيدة لجميع المواطنين.

شكرا للذاكرة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى