ثمة تواطؤ بين الجمهور والقاتل: في جاذبية البشاعة/ عصام الخفاجي
إذا كان «داعش» دفع الممارسة الوحشية إلى مدياتها القصوى، فلا بد من أن تلك القسوة لم تأتِ من فراغ.
مع كل مجزرة، يعلن «الداعشيون» أنهم قاموا بواجبهم الشرعي الذي تمليه عليه عقيدتهم. القتل، وياللأسى، ممارسة تحولّت إلى مفردة عادية في عالم السياسة: أحكام بالإعدام في بلدان تمتد من الصين شرقاً إلى الولايات المتحدة غرباً. لكن التفنّن في عمليات القتل هو ما شدّ أنظار العالم إلى دولة الخلافة. ولقد قيل الكثير عن دوافع الترهيب الكامنة وراء إبراز هذا الجانب الوحشي إعلامياً. من منّا لا يشعر بالرهبة والرعب، إذ يرى عنق إنسان محزوزاً. حاسّة البصر أقوى بكثير من التحليل الذهني. أن ترى هذا المشهد يعني أن تتخيل نفسك في الموقف ذاته، وهو غير أن تسمع أو تقرأ خبر تنفيذ حكم الإعدام بحق شخص لا تراه.
كل هذا صحيح. ولكن، لماذا التفنّن في عمليات القتل التي تجرى بعيداً من الأضواء؟ وكيف يتم إقناع الجهادي بأن تلك الوسائل، وليس تنفيذ حكم الإعدام شنقاً أو بالرصاص، هي التي تلبّي المطلوب؟
خطر سؤال ببالي، وأنا أقرأ ما توافر من سير ذاتية لقادة «داعش». معظمهم احتل مراكز في أجهزة استخبارات صدّام حسين أو قواته الخاصة. هل يعقل أن كل هذه الجمهرة اهتدت إلى الدين ودخلت في التديّن خلال سنوات قليلة؟ وهل يعقل أن لا يجد تنظيم جهادي يعلن تمسكه الصارم بتعاليم الإسلام قادة تربّوا على تلك التعاليم منذ الصغر وكانت لهم تجارب مع تنظيمات مماثلة أو حركات إسلامية أخرى؟
ليس ثمة وجه شبه بين الأيديولوجيا البعثية وأيديولوجيا الجهاديين، بل إن نظامي البعث في العراق وسورية حاربا الأخيرة باسم العلمانية. ويمكن التفهم وليس القبول بتحالف قوى بعثية مع الجهاديين لأسباب قالوا إنها تكتيكية. أما أن يندمج بعثيون قضوا سنوات طويلة في التثقّف بالتعاليم القومية في تلك الحركات، بل وكان بعضهم من كوادرها، فهو أمر يستدعي التأمل لأننا لسنا أمام حالات فردية.
ولكن، هل تنجذب الجمهرة إلى حركة سياسية ما بسبب أفكارها، أم لأن الأنماط القيمية التي تتبناها الحركة ومنظومة الممارسات المشتقّة منها تلبّي حاجة لديها؟ هل ثمة مدى أدنى من الوحشية جعل بعض العراقيين والسوريين يجدون أعذاراً لـ «داعش» في دفعه إلى المدى الأقصى حتى وإن أبدوا امتعاضاً منه؟ بعد سقوط نظام البعث في العراق كان كثير من الناس يحاجّون بأن أي نظام لا بد من أن يستخدم وسائل القمع للحفاظ على «الأمن» ولعلّ صدّام بالغ في قسوته، بل إن شيخ قبيلة كبيرة ألتقيته أوائل التسعينات حين انتقل إلى صفوف المعارضة سألني حين أثرت مأساة قصف الأكراد بالسلاح الكيماوي: «وماذا ينتظر من يقف في وجه الدولة (لاحظوا/ الدولة لا النظام)؟ أن يقصفوه بالشوكولاته؟».
لم يستخدم «داعش» السلاح الكيماوي حتى الآن. سلاحه الترهيبي المفضّل هو قطع الرؤوس. خلال التسعينات حمل فدائيو صدام بقيادة ابنه عدي السيوف لقطع رقاب الزانيات. لا يعرف أحد عدد الضحايا، ولا عدد من لاقين هذا المصير لأنهن رفضن الزواج بالواشي أو لم يتنازلن عند رغبته بابتزازهنَّ. وخلال الثمانينات كان العقاب الرسمي للهاربين من جحيم الحرب قطع الآذان. لم يعد الموت وحده كافياً للشعور بالتشفّي بعد أن تعوّد العراقي على مشاهدة صور جماجم إيرانيين سقطوا في معارك الحرب العراقية – الإيرانية.
البشاعة عملية تراكمية تبنى على بشاعة قبلها حين لا تعود الأخيرة كافية لإثارة الشعور بتميّز الحركة الجديدة. إنها تبنى على تعوّد الناس على ممارسة البشاعة الأدنى حتى لو كرهوها. بشاعة التسعينات والثمانينات بنيت على تراكمات سبقت صعود البعث الذي افتتح عهده بدعوتنا إلى الزحف لمشاهدة جثث أحد عشر يهودياً عراقياً اعتبرهم جواسيس لإسرائيل. كانت الجثث معلّقة على أعمدة تحيط بساحة التحرير مقابل نصب الحرّية. التفرّج جزء من طقس رمزي. نتفرّج على الجثث لأننا نؤيد العقوبة، وفرجتنا مشاركة في تنفيذ العقوبة. يتحرّر الجلاد من عقدة الذنب ويحرّر طاقات الشر الكامنة فينا.
التعذيب لدى الجهاديين قيمة بحد ذاته لا وسيلة غايتها تنفيذ العقاب. ولأنه قيمة فلا ينبغي أن يعهد به إلى محترف مثلما يحصل في السجون، بل هو طقس لتطهير النفس والبرهنة للذات وللجماعة بأن الجهادي صار جزءاً من القضية. تنقل «نيويورك تايمز» عن شاب تركي كان مدمناً المخدرات منذ طفولته قبل أن يلتقطه «داعش» ويحوّله إلى جهادي في سورية، أنه لم يحصل على رتبة المقاتل الكاملة حتى بعد أن قتل عدوّين بالرصاص، وشارك في حفلة إعدام جماعي. فقط حين قام بدفن أحد ضحاياه حيّاً استحق هذا «الشرف». مقابل عشرات الفيديوات التي يبثّها «داعش» ثمة آلاف الممارسات البشعة لن يتوقف «داعش» عنها حتّى لو انخفض عدد مشاهدي فيديواتها إلى الصفر. لا شكّ في أن القتلة يهدفون إلى إيصال رسالة ترهيبية إلى الآخرين. ففور وصوله إلى موقع الرئاسة اكتشف صدّام حسين أن تسعة وأربعين قيادياً كانوا يتآمرون عليه. عقوبة الإعدام في حالة كهذه أمر مفروغ منه. لكن، كان على كل عضو في قيادة الحزب أن يطلق رصاصة على المتّهمين.
تضفي المشاركة الجماعية في الوحشية هوية توحّد ممارسيها. وهي تتأدلج كعقاب أو انتقام من عدو أذلّ الجماعة أو تجرّأ على تحدّيها.
تتناسب الوحشية طردياً مع درجة الإذلال الذي تشعر الجماعة بأنها تعرّضت لها على يد العدو المفترض، كما تتناسب مع مشاعر الناس عموماً تجاه ذلك العدو. ولهذا التناسب أهمية قصوى فالقاتل هنا يصوّر نفسه ممارساً الفعل نيابة عن الشعب الذي يتوحّد معه. وكثيراً ما نجح هذا التكتيك، لسوء الحظ. من لم يتمنّ الانتقام من إسرائيل بعد عامين من انتصارها على العرب عام 1967؟ أما أميركا، فلم تكن كثرة من العراقيين والعرب والمسلمين في حاجة إلى غزوها العراق لتأجيج كراهيتها لها. فالجوع والموت اللذين خبروهما طوال 13 سنة من الحصار سبقت الغزو تكفّلا بذلك. لو اكتفى مقاومو الفلّوجة بإعدام مجموعة مقاولين أمنيين أميركيين وقعوا في مكمن لهم بعد أشهر من الغزو لبدا الأمر مفهوماً، لكنه لم يكن ليُشبع شهوة الجمهور للتشفّي. تدلّت جثثهم من الجسر. كان أحد المقاتلين يصرخ: لنعمل منهم «باجة»، وهي أكلة مادتها رأس الخروف. ثمة تواطؤ بين الجمهور والقاتل.
ليست الرغبة في الانتقام الجماعي جزءاً من جينات المسلم أو العربي، لكن قسوة الانتقام وتعريف من يخضع له تتناسب مع درجة التطور الحضاري للشعب. يقول كاتب فرنسي: «حين تحرّرت باريس من النازية أجّج العنف والخوف والبؤس المصاحب الاحتلال تعطّشاً حاداً للانتقام». لم يكن دافع الانتقام ما قام به النازيون فقط، بل ترسيخ الشعور بانتصارهم، وهم يعرفون أن الدور الرئيسي في تحقيقه يعود للحلفاء لا للمقاومة. كانت وظيفة الانتقام الإيحاء بأن الشعب كله، باستثناء حفنة متواطئين، كان موحّداً مع أن غالبية الفرنسيين لم تقف في وجه حكومة فيشي النازية. في فترة الاحتلال، كانت ثمة عمليات إعدام من دون محاكمة لأفراد الميليشيات الفاشية وتجار السوق السوداء والمخبرين. وبعد الانتصار أعدم ثمانون مسؤولاً في فترة الاحتلال. كان هذا أمراً طبيعياً. أما التلذّذ بالانتقام الجماعي فتجلّى في سَوق مئات، وربما آلاف، النساء المتعاونات إلى الشوارع وحلاقة شعورهنّ أمام الجمهور. يستحقّ استهداف النساء من جانب الجهاديين، كما من جانب غيرهم مقالاً مستقلاً. لعلّه يساهم في تذكير غالبية الرجال بمصلحة مشتركة في تكريس إخضاع نصف المجتمع قبل التفرّغ لإخضاع الخصم الديني أو القومي أو الطبقي.
وليست الرغبة في الانتقام وتقديس القسوة حكراً على الجهاديين. استخرجت نصّاً مدفونا في أرشيفي:
«القمع المنفلت… هو إعادة خلق الإنسان لذاته. إنه الغضب المجنون الذي يستطيع معذّبو الأرض أن يصبحوا رجالاً من خلال ممارسته».
ليس كاتب هذا النص واحداً من جزّاري «داعش» أو منظّريه. هو الفيلسوف الإنساني الذي كان معشوق شباب الستينات جان بول سارتر، كتبه كمقدمة لكتاب لم يكن عشق ثوريي العالم الثالث له أقل: «معذّبو الأرض» لفرانز فانون.
لكن، إن بات التلذّذ بالقتل جزءاً من ماضي شعوب كثيرة، فهو ما زال منغرساً فينا.
تقول كلمات أغنية ذائعة: «والله لو حبّيت غيري/ أقتلك وأموت بعدك»
أمّا الأغنية الأكثر وفاء للتقليد «الداعشي»، فتقول: «لو يدرون أهلي وعَمامي/ يذبحوك وأنا شبيديّه».
* كاتب عراقي