ثياب الأمبراطور بعد هربه
فاروق يوسف
حين قبّل برلوسكوني يد القذافي في لقطة نادرة من نوعها، كان زعيم ليبيا السابق يضع على صدره صورة لعمر المختار، الثائر الليبي الذي أعدمه الايطاليون، أيام الاستعمار. بالنسبة الى القذافي لم يكن المختار في تلك اللحظة رمزاً تاريخياً فحسب، بل ايضاً كان اعلاناً للمسة جمالية مختلفة يضيفها العقيد إلى تاريخ الأزياء. وإذا كان الرجل قد عاش حياته كلها في عزلة أفكاره التبسيطية فقد كانت أزياؤه تقدمه باعتباره مخترع صور.
في باب العزيزية صارت خزانة ملابسه فارغة الآن. متى حدث ذلك؟ الرجل الذي حكم ليبيا 42 سنة، كانت مزيجاً من تراجيديا الرعب وكوميديا الاستعراض، قد اختفى مثل شبح. ما الذي عبّأ به حقائبه؟ بالأموال، بالذهب، بالأفكار، أم بالثياب؟ الكتب، لا يحتاجها. فهو سيد المتحفية، وسيكون كل سفر بالنسبة إليه رحلة موقتة. لا تهبط الالهة القديمة إلى الأرض إلا سراً. هو فعل ذلك لا من أجل أن يتفقد الرعية، بل لكي يتحسس جسده للمرة الأولى.
شانيل وعطر الحكاية
“لا أزال حياً”، سيقول. وهي فكرة طارئة ستزول بعد حين. الحقائب تتبعه إلى مكان سرّي. الى مخبئه الأمن. كل مكان تقع قدماه عليه هو في حقيقته لا مكان. لقد تخلّت عنه اليابسة، التي كان يظنها مزاراً لزبده. تجيء كلماته هذه المرة من وراء حُجب. بقي صوته. بقيت جمله غير المترابطة والمتشنجة. هناك الصمت الذي يقع بين جملة وأخرى، حيث يقيم. لكن هل صارت ثياب الأمبراطور نهباً للرعاع؟ الجرذان تسللت في لحظة إخفاق تاريخي إلى مداد قلمه. جرؤت على أن تقاسمه هواء نرجسيته. هل وقع ما لم يكن في الحسبان حقاً؟ لم تكن مدام شانيل وهي تخيط ثيابها تفكر في الطفل الذي صرخ وسط الحشود ساخراً حين رأى الأمبراطور عاريا، بحسب حكاية اندرسن. شانيل صنعت حكاية مختلفة. القذافي كان هو الآخر يهوى الحكايات. كانت حكاياته مرحة، وإن كان قد تنبأ حين رأى صدام حسين يُعدَم بطريقة مهينة بسقوط العروش كلها. لم يجزم أحد من أعدائه الكثر ومن أصدقائه القلائل بأنه يعرفه تمام المعرفة. هناك أثر من زئبق في كل ما قيل له. رجل وحيد. هل كان حقاً كذلك؟ المسافة التي تفصله عن الآخرين كانت دائماً خاوية. لا كلامه المتقطع ولا أزياؤه الغرائبية ولا عاداته الصادمة استطاعت أن تؤثث تلك المسافة باللغة المنتظمة التي تقدّمه للتعريف. لا يكفي أن نقول إنه كان مجنون حكم أو مريضاً بأناه المتضخمة أو ممثلاً استعراضياً. كان القذافي كل ذلك، غير أنه كان دائماً لغزاً حائراً ومحيّراً، لمن عرفه وخبر تقلباته، ولمن لا يعرفه وأصابته دسائسه بالهلع. يوماً ما، كان رجلاً خطيراً. لقد حارب على جبهات شريرة عديدة. وكان له في كل جبهة من تلك الجبهات قناع يظهر من خلاله. من وجهة نظره لم يكن هناك عائق يمنع من القيام بأي شيء. الحدود مفتوحة بين قيم الشر والخير. حين تنازل عن كل شيء من أجل أن يرضي الغرب (في قضية لوكربي) فإنه كان يلعب أيضاً.
كانت تلك التنازلات من وجهة نظره قناعاً آخر يضعه على وجهه. في سيرته ليست هناك اشارة إلى أن الرجل كان يهوى التمثيل (السادات على سبيل المثال كان يودّ لو أصبح ممثلا). يهمّه أن يكون منتهكا للسائد، وهو أمر يُحسَب له لا عليه. كانت ثيابه تقدمه بهيئة ذلك المنتهك الذي يمكن إلحاقه فنياً بعصر ما بعد الحداثة.
العاري إلى اللحظة الأخيرة
له لا عليه إذاً. ثياب الأمبراطور ليست تهمة. لقد عاش الرجل 42 سنة من الأناقة المتوحشة. يتعدد ولا يتكرر. ينسى ما كانه فلا يكون الشخص نفسه في كل مرة نراه فيها. مظهرياً على الأقل. مظهره هو لا مظهر ليبيا، البلد الذي أبقاه فقيراً جمالياً، بل زاده وجوده في الحكم قبحاً. لم يكن العالم يرى الليبيين. كان يرى معمراً وحده. بعد الثورة تذكّرنا أن هناك رجلاً اسمه عبد السلام جلود، كان نائباً للقذافي ورفيق ثورة. أما الكتّاب الليبيون الذين نعرفهم فكلهم يقيمون خارج ليبيا. كانت ليبيا للقذافي وحده، مشروع خيال فقير وقريحة كتاب أخضر لم يجد من يفهمه. كان القذافي وحده مَن يتكلم، مَن يسافر، مَن يفكر، مَن يُمثّل ومَن يرتدي الثياب المعاصرة. لا أظنه كان يفكر في الليبيين وهو يقف ممثلاً لهم في الامم المتحدة أو في الجامعة العربية أو حين يقابل رؤساء الدول. لا يليق به أن يكون صغيراً إلى هذه الدرجة. ثيابه على الأقل لا تسمح له. جمله التي كانت عبارة عن لعثمات، كانت تختصر رأيه في العالم الذي يحيط به، وهو عالم يدعو إلى الغثيان. كان الرجل محقاً في بعض الأحيان، لكنه الحق الذي كان يفسده شعور لا يُخفى بالعظمة الشخصية. وإذا ما كان القذافي قد اضطر إلى الهرب من غير أن يحمل ثيابه معه، فإنه لا بد أن يكون عارياً في هذه اللحظة. هو ليس الشخص الذي تناسبه ثياب كل يوم، ولا ثياب كل شخص. لقد عاش حياته كلها متنكراً. حفلاته التنكرية كان يقيمها على مرأى من وسائط الاعلام. أما أن يتنكر في زيّ قبلي جاهز فتلك هي نهايته التي سيقاومها بجنون. لقد سبق له أن ارتدى أزياء القبائل كلها، لكن بتصميم معاصر، ساهمت فيه كبرى دور الأزياء في العالم. لم يسمح للرمل بأن يلمس جسده. رائد الفضاء المختلف لن تمس قدماه الأرض. عنوان كتابه القصصي الوحيد يمكنه أن يختصر مزاجه. وهو مزاج يصنع سيرة حياة.
كان الكثيرون يذهبون إليه. غالباً ما كانوا مرتزقة، أو يذهب بعضهم للارتزاق مضطراً (وهي كذبة). الغالبية العظمى كانت تعود من اللقاء به مُهانة، بغض النظر عن أعطياته. كرم مسموم كان يغذّي به حركات التمرد في مختلف أنحاء العالم، بغضّ النظر عن أهدافها. حين أعلن غير مرة تخلّيه عن العروبة وانتسابه إلى حاضره الأفريقي فقد كان يفكر في السحرة. ملوك القبائل الذي يذرعون القارة بحثاً عن عشبة هاربة. لذلك لم يكن لقب “ملك ملوك أفريقيا” إلا تتويجاً لمسيرة حياة خيالية، هرب من خلالها فتى سرت في اتجاه السراب الأعظم: ساحر أفريقيا الأول. وهو ما لم يحققه له الكتاب الأخضر، ولا الجماهيرية العظمى، ولا العصابات التي أمدّها بالمال والسلاح حول العالم، ولا تجربته في الحروب العربية الصغيرة (حرب لبنان مثلا).
كولاّج بصري حي
أعطته أفريقيا ما لم تعطه ليبيا ولا الوطن العربي. كانت مرحلة ثيابه الأفريقية هي الأكثر زهواً. علامة انتصار مزدوجة: أنهى صراعاً نفسياً كان عبد الناصر يضيّق من خلاله عليه الخناق ووجد مساحة بكراً جديدة للرشوة. حينذاك اتسعت متاهته. تخطى خواؤه الروحي محيط اللغة. لم يعد عليه أن يعود إلى المرآة عينها وهي المرآة التي خرج منها. تعددت مراياه وصار يلبس ما يشاء ليكون ملك ملوك أفريقيا حقاً. لكنه كان أحياناً يقطع ذلك الخيال الأمبراطوري بواقعية أوروبية، فيرتدي على سبيل المثال بدلة بيضاء ويدخّن. مع ذلك فإنها لن تكون لقطة مريحة لمن يقابله. لن يكون الرجل المتوقع. كان القذافي يعرف أنه يفاجئ الآخرين حين يكون غير ما يتوقعون. الرجل الذي يقترح شكله لحظة حضوره. كولاّج بصري حي. كان يهمّه أن يكون موجوداً في كل لحظة تصوير بالطريقة التي يقترحها عليه خياله. غير أن صورة الساحر الأفريقي كانت أكثر الصور الذي تسببت له بشعور عظيم بالراحة. جزء من أفريقيا أحبّه في تلك الصورة. الفكاهة التي تقترب من الفطرة. أفريقيا تفكر في استرخاء. لا شيء فيها يستدعي الابتزاز أو الغزو الآن. ذهب زمن العبودية. كان رؤساء الدول الأفريقية ينظرون إلى القذافي باعتباره مموّلاً. وهي الصفة التي لم تكن تخدش حياء الرجل. لقد كان دائماً كذلك وإن كان يرى المشهد من جهة مختلفة: الجميع تحت قدميه في انتظار مكرماته. لم يدرك الأخ القائد أن أفريقيا وهي القارة الفقيرة لا تفكّر في من يحكمها بل في من يعطيها. الآن، بعد اختفاء القذافي، سيشعر عدد من الزعماء الأفارقة بالفرق: الفراغ في خزانته لن يمتلئ. ربما يكون الأمبراطور قد رآهم. ربما يكون قد رأى أولئك المهرجين الذين حملوا ثيابه باعتبارها غنيمة حرب. طافوا بها شوارع طرابلس وساحاتها. وقفوا للتصوير، ثم ذهبوا إلى بيوتهم ليدخلوا إلى أحلامهم في صفتهم الجديدة: أباطرة زائفين.
النهار