جذور الصراعات العربية…تفكك الامبراطورية العثمانية/ كارل بيلديت
تكمن جذور العديد من صراعات الشرق الأوسط في تفكك الامبرطورية العثمانية في بداية القرن العشرين والفشل منذ ذلك الحين في تشكيل نظام إقليمي مستقر. وبينما يعمل المجتمع الدولي من أجل تأمين سلام دائم في المنطقة فسيكون من الحكمة أن يتذكر قادته دروس التاريخ. المفاوض الدولي المخضرم كارل بيلت رئيس الوزراء ووزير الخارجية السويدي الأسبق يسلط الضوء على المنطقة العربية في ظل حروبها واضطراباتها السياسية.
لقد امتد الامبرطورية العثمانية –التي ترامت أطرافها في يوم من الأيام من بيهاتش في البوسنة اليوم إلى البصرة في العراق- كانت تشكل فيسفساءً غنيةً من الثقافات والتقاليد واللغات المتداخله تحت السلطة الكلية للسلطان في اسطنبول. ولقد كانت تلك الامبراطورية على نحو يثير الاعجاب مستقرة، مما أعطى المنطقة أساسا سلميا لمئات السنين. ولكن عندما بدأت تلك الامبراطورية بالتفكك حصل ذلك بشكل عنيف.
لقد بدأت عملية استقطاع دول قومية من الفيسيفساء العثمانية في البلقان وهي عملية أطلقت عقدين من الحروب المدمرة، وقد كان أولها في بداية القرن العشرين والثانية في التسعينيات من القرن الماضي.
قوى خارجية تعيد رسم الخارطة العثمانية
وفي الوقت نفسه نشأت في بلاد الرافدين وبلاد الشام مجموعة جديدة من البلدان بينما قامت القوى الخارجية بإعادة رسم الخارطة العثمانية. ولقد تشكلت سوريا والعراق نتيجة للمفاوضات حول المصالح الفرنسية والبريطانية المتنافسة. لقد قام اليونانيون بمحاولة فاشلة لغزو غرب الأناضول، مما أدى في نهاية المطاف إلى إشعال الثورة التي قادت إلى إنشاء تركيا الحديثة. وفي سنة 1917 وضع وعد بلفور-وهو تعهد بريطاني لإنشاء دولة يهودية في فلسطين– الأساس لتكوين إسرائيل سنة 1948 حيث تلا ذلك عقود من الصراع والمفاوضات.
لقد شكل إيجاد وطن لإقليم الموصل العثماني جزءا صعبا من اللعبة، على وجه الخصوص نظرا لمطالبة الحكومات الجديدة في تركيا والعراق بذلك الإقليم. وقد تم إنشاء لجنة من قبل عصبة الأمم وبرئاسة دبلوماسي سويدي، وقامت تلك اللجنة بعمل خطوط متقاطعة في المنطقة بحثا عن حل عادل، ولكنها فشلت في نهاية المطاف في إيجاد خط فاصل مناسب. وفي نهاية الأمر أوصت اللجنة بإعطاء الإقليم للعراق ولكن فقط لأنه كان من المفترض أن يبقى العراق تحت انتداب عصبة الأمم لعقود.
“إن تقسيم العراق إلى دول سنية وشيعية على سبيل المثال يمكن أن يؤدي بسهولة إلى أن يصبح الوضع في بلاد الرافدين مشابها لمأساة شبه القارة الهندية سنة 1947، وذلك عندما لقي ملايين البشر مصرعهم وهم يفرون إلى باكستان أو الهند بعد التقسيم”.
الفيسفساء العثمانية لم تتضمن خطوطا فاصلة
ومنذ ذلك الحين ومن خلال حروب وثورات متعاقبة بقيت حقيقة أساسية واحدة، وهي أن الفيسفساء العثمانية لم تتضمن خطوطا فاصلة وواضحة، تسمح بإعادة تنظيم المنطقة بشكل سلس كدول أو كيانات ذات هويات عرقية أو قومية أو دينية متماسكة. إن إدراك هذه الحقيقة هو أمر منطقي للغاية. فالنظام الإقليمي الذي نشأ في أعقاب انهيار الامبراطورية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كان اعتباطيا، ولكن أية محاولة لتغييره من المرجح أن تؤدي إلى المزيد من إراقة الدماء.
تقسيم العراق كما حدث في شبه القارة الهندية؟
إن تقسيم العراق إلى دول سنية وشيعية على سبيل المثال يمكن أن يؤدي بسهولة إلى أن يصبح الوضع في بلاد الرافدين مشابها لمأساة شبه القارة الهندية سنة 1947، وذلك عندما لقي ملايين البشر مصرعهم وهم يفرون إلى باكستان أو الهند بعد التقسيم. وفي واقع الأمر فإن من المرجح أن أي صراع بين العرب والأكراد، والذي قد يتبع أي تقسيم للعراق، سيكون صراعا دمويا وطويلا وسوف يكون له تداعيات عميقه في إيران وتركيا وسوريا. وذلك نظرا للأعداد الكبيرة من الأكراد الذين يعيشون في تلك الدول. كما أن المعركة للسيطرة على بغداد ستكون شديدة كذلك.
آفاق الحل السوري
إن إيجاد حل للصراع في سوريا لن يكون أقل سهولة فربما يمكن استدامة الدولة العلوية على طول الساحل والمحمية من روسيا ولكن ستبقى السلطة في دمشق متنازعا عليها إلى حد كبير. والأقلية المسيحية في سوريا ستبقى كذلك ضحية لمثل هذا المسعى. تضم سوريا بعضا من أقدم المجتمعات المسيحية في العالم والتي وإن كانت أصغر بكثير من وضعها السابق، ما تزال تتمتع بحقوق تاريخية لا جدال فيها في هذه المنطقة. إن تلك المجتمعات تعتبر قطعا صغيرة من الفسيفساء العثمانية والتي تمت المحافظة عليها في سوريا الحديثة ولكنها ستموت لو اختفت تلك القطع.
كان كارل بيلت وزير الخارجية السويدي منذ عام 2006 وحتى أكتوبر/ تشرين الأول 2014. وكان رئيساً للوزراء بين عامَي 1991-1994، فاوض حينها انضمام السويد إلى الاتحاد الأوروب. وهو دبلوماسي دولي معروف، وشغل منصب المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي ليوغوسلافيا السابقة ومنصب الممثل السامي إلى البوسنة والهرسك ومنصب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى البلقان، وهو رئيس مشارك لمؤتمر دايتون للسلام. كما أنه هو رئيس اللجنة العالمية حول حوكمة الإنترنت وعضو في مجلس الأجندة العالمية للمنتدى الاقتصادي الدولي حول أوروبا.
“محاولات فرض حدود جديدة ستبوء بالفشل”
في واقع الأمر فإن الفسيفساء العثمانية تعرضت لضرر شديد وهي الآن في طور التفكك البطيء. ولكن بينما من الممكن ألا تستطيع المدن التجارية القديمة المتعددة الثقافات مثل حلب والموصل استعادة عافيتها والازدهار مجددا، يجب ألا يُستخدم ذلك كمبرر من أجل تقسيم المنطقة وتقطيعها على أساس خطوط جديدة على حساب أنهار من الدماء.
بينما يسعى المجتمع الدولي إلى إنهاء الفوضى والصراع اللذين يدمران الشرق الأوسط وإقامة نظام إقليمي يمكنه استدامة السلام والاستقرار، يتوجب على قادة المنطقة السعي للعمل ضمن الإطار الحالي. إن الاستراتيجيين الجالسين على الكراسي في بلدان بعيدة يخدعون أنفسهم لو فكروا بأن محاولات فرض حدود جديدة مناسبة على تلك الأراضي القديمة لن تفشل أمام الواقع المعاصر.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت 2015