سلام الكواكبيصفحات سورية

مواسم الهجرة إلى المجهول/ سلام الكواكبي

وكأنه قد كتب على السوريين أن يعيشوا في حالة هرب دائم أمام محتليهم ومستبديهم. فمنذ قرنٍ ونيّف، هاجر الآلاف منهم بحثا عن سلام وأمان وسعيا للنجاة من عسف السلطنة العثمانية. وكذلك هرب السوريون من التجنيد في جيوش تحارب لتنقذ أنقاض الرجل المريض في الآستانة. وقد ابتعد الكثير منهم في اتجاه أميركا الجنوبية واقترب آخرون في اتجاه مصر. واندمجوا بشكل لافت وساهموا في ازدهار اقتصادي وفكري مشهود له.

وفي حقبة الانتداب الفرنسي، تراجعت الظاهرة لوجود مساحة نسبية من الحرية. ولكن استمرار الوضع الاقتصادي السيئ، نتيجة انعكاسات الحرب العالمية الثانية، أدى أيضا إلى موجات متفاوتة الأهمية من اللجوء الاقتصادي. وأتت “الدولة الوطنية” السورية سنة 1946 بالكثير من الآمال وتحققت بعض المشاريع الاقتصادية البارزة في زمنها. سرعان ما تبددت هذه الحالة وعاد انعدام الاستقرار من خلال تعاقب الانقلابات ووصول الجيش إلى الحكم بصيغٍ مختلفة تجهض الديموقراطية الناشئة. وتميّزت الحقبة الأمنية الأشد، والتي بدأت سنة 1958، بهجرة واسعة هربا من القمع والترهيب، إضافة إلى الرعونة الاقتصادية التي دفعت كل رؤوس الأموال للهرب.

وفي سنوات “الرصاص”، في سبعينات القرن المنصرم وثمانيناته، هرب الآلاف من الاستبداد والفساد. وكذا فعل اصحاب المال ممن رفضوا أن يحاصصهم رموز السلطة بنوعٍ من “السلبطة” الموصوفة. وجرى هروب جماعي محدود من مدن محددة تعرضت، كمدينة حماة مثلا، إلى التدمير الجزئي من قبل قوات السلطة.

أما في الألفية الثالثة، فقد عرفت البلاد حقبة من “الإصلاح”، بدءا من الاقتصاد الاجتماعي المافيوي إلى الإفقار الممنهج، إلى تعزيز الآلة القمعية، وصولا إلى استخدام وسائل أكثر اقناعا بصدقية هذا المسار، كالأسلحة الكيميائية أو الصواريخ الباليستية. وقد تمّ تتويج هذا “الإصلاح”، المسمّى تشفيّا بـ”التحديث والتطوير”، بتدمير البنى التحتية وحرق الزراعات وتهجير داخلي للملايين وخارجي لاثنين أو ثلاثة من الملايين، لم يعد في قدرة أي منظومة دولية أن تحسم في احصاءاتها عنهم.

يعاني السوريون حاليا من تهجيرٍ قسري لا يضاهيه في ذاكرة العرب إلا ما حصل للفلسطينيين في نكبتهم الأولى. وتعددت أشكال اللجوء، ولكنّ أعمّه وأشمله هو لقليلي الحيلة اقتصاديا. مما أدى إلى نشوء مخيمات ترمز إلى أن الحرب على السوري، الممتدة منذ بدء الامنوقراطية، تتجاوز فكرة تخريب المكان إلى عملية تدمير الإنسان. وخضع اللاجئون إلى صنوف متفاوتة من المعاملة على امتداد الدول “الشقيقة” و”الصديقة”. وكما هي العادة، استغلّت قضيتهم سلبا من قبل الأحزاب والجماعات السياسية ذات المستوى الأخلاقي والإنساني المتدني في بلاد اللجوء. حيث أصبحوا يُحمّلون مسؤوليات كل أزمات هذه البلاد من اقتصادية إلى سياسية.

وقد بلغ سوء الاستقبال العربي “الشقيق”، وضيق المجالات المتاحة للذهاب شرعيا إلى الغربي “الصديق”، إلى لجوء عديدٍ منهم، وخاصة الشباب، إلى قوارب الموت التي تحملهم من شواطئ بلدان عربية تتشارك سلطاتها مع مافيات العبور لتدعيم الدخل “الوطني” الخاص والمساهمة في إعادة توزيع “الريع” عبر حيوات السوريين والسوريات.

أصبحت شواطئ أوروبا الجنوبية تذخر بالجثث المنتشلة من أعماق البحار لمئات من السوريين الذين تقاذفتهم الضمائر المفقودة وأمواج المتوسط.

يجب أن يتم ادراج ما يحصل ضمن جرائم الحرب وليس ضمن نتائجها فحسب. إن من مهّد لها ودفع اليها هو مجرم حرب.

استاذ جامعي في باريس

الشروق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى