صفحات الثقافة

المثقف السوري في زمن الثورة زعزعة ‘مونوليتيك’ الحياة الثقافية

أندلس الشيخ
أول ما يحضرني في الحديث عن المثقف السوري في زمن الثورة، هو صوت سميح شقير الذي كان يغني منذ زمن بعيد في وطنه سورية للحرية، ويرسمها في كلماته وموسيقاه حلماً للآخرين. شقير الذي هو خير العارفين بأن كل ثورة في التاريخ البشري تحتاج إلى نشيد تسمو به وتحلق معه، كان من أول المواكبين لإنتفاضة الشعب السوري بأغنية ‘ياحيف’، التي أهداها إلى شهداء مدينة درعا، مهد الثورة السورية.
هذا العمل الغنائي المؤثر الذي لاقى صدى كبيرا لدى الملايين من السوريين كان ‘يحمل تراجيديا حارقة لمصائر بشر يعنون لنا الكثير’، على حد تعبير صاحب ‘حناجركم’، الذي استطاع بحسه الموسيقي الرفيع وبالتزامه الصادق بالقضايا الإنسانية أن يؤلف لثورة الشعب السوري الأبي نشيداً يصف فيه قتل الحاكم للمحكوم في سبيل بقائه، لا بل خلوده متربعاً على عرش السلطة. ففي الوقت الذي كانت فيه يد عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسي في درعا، على الرشاش تطلق الرصاص على صدور أطفال حوران، كانت أنامل سميح شقير على آلة العود تصوغ لحناً يجسد إنتصار الكلمة على العنف والإبداع على الهمجية وبحة الصوت على الجبروت.
مفتاح الصول، كان أيضاً وسيلة مالك جندلي، عازف البيانو الشهير، في التعبير عن وقوفه إلى جانب شعبه في سورية، الذي ما زال يتعرض حتى اليوم إلى أبشع أساليب الإهانة والقمع على أيدي قوات الأمن السورية. فقد سخّر الفنان العالمي موهبته الموسيقية المتميزة من أجل تعريف العالم أجمع بقضية شعبه، التي هي قضية إنسانية سامية لأن مطلبها الحرية قبل كل شيء. وبالرغم من الاعتداء الجسدي البشع الذي لحق بأهل جندلي على خلفية مشاركته في تظاهرة مناوئة لنظام الأسد، قرر مؤلف ‘أصداء من أوغاريت’، على طريقة شوستاكوفيتش ضد ستالين، متابعة تحديه لبربرية أصحاب السلطة في دمشق، وذلك بتأليفه أسطوانة تحمل اسم ‘حمص’، تحية منه إلى مدينة مار إليان وخالد بن الوليد التي أذهلت العالم بثباتها في وجه آلة القتل والقصف اليومي التي تفتك بأهلها الأخيار. وتبرز في هذه الإسطوانة مقطوعة موسيقية بعنوان ‘سيمفونية القاشوش’، حيث استلهم الموسيقار إبداعيته هذه من قصة مغني الثورة السورية إبراهيم القاشوش، الذي اغتاله أزلام النظام السوري كما اغتالت السلطات التشيلية يوماً الفنان فيكتور جارا، بإيعاز من الطاغية بينوشيه.
أما عن كيفية تفاعل أهل المسرح مع مجريات الحراك الشعبي في سورية، فيمكن القول هنا بأن تجربة الأخوين ملص، أحمد ومحمد، التي تم تكريسها في سياق الثورة، هي تجربة استثنائية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فإذا كان الخلق الصافي هو أن يبتكر المرء مفهوماً جديداً لم يأت على صياغته أحد من قبل، فإن التوأم ملص هو ثنائي مبدع تمكن من ابتكار أسلوب غير مألوف في العرض المسرحي. ‘مسرح الأوضة’، ‘مسرح الغرفة’ أو ‘المسرح المنزلي’، جميعها أسماء تصلح للدلالة على ما قام به أحمد ومحمد ملص عندما لم يجدا في بلدهم مكاناً يحتضن موهبتهم أو يحتمل تغريداتهم التواقة إلى الحرية. ولما كان الكلام هو أكبر المعصيات في ‘سورية الأسد’، فقد عمد الفنانون إلى تقديم أعمالهم في غرفة البيت التي أصبح بلاطها خشبة مسرح يقفان عليها من أجل البوح بالهموم التي تسكنهم، والتي هي ليست سوى هموم المواطن السوري الذي سُلِب حق التعبير في مملكة الحركة التصحيحية.
تحويل غرفة الدار إلى مسرح، هي فكرة بسيطة، لكن رمزيتها هنا تبدو أكبر من أبو الهول، من حيث أن وطن سعد الله ونوس قد ضاق تماماً بـ’الحكي’ إلى درجة دفعت بالأخوين ملص إلى خلق مسرح بديل عن مسرح المدينة. ففي كل بقاع الأرض، ومنذ نشوء المسرح في اليونان القديم إلى يومنا هذا، عندما ينوي المرء حضور عرض مسرحي ما يقوم بفتح باب بيته للمضي إلى الخارج، إلى ‘برّا’، إلا في ‘سورية البعث’ فيأتي جمهور الأخوين ملص من الخارج إلى الداخل، إلى ‘جوّا’ لمشاهدة ‘ميلودراما’ أو ‘الثورة غداً تؤجل للبارحة’ أوغيرها من العروض التي أخذت بمؤلفيها من غرفة البيت في منزل الأهل إلى أماكن أسطورية كمهرجان أفينيون العريق.
مساهمة المثقف السوري في رفع لواء الثورة عالياً، لم تقتصر على ميادين الأغنية والتأليف الموسيقي أوالكتابة المسرحية والتمثيل، بل امتدت أيضاً إلى ميدان الرسم والفن التشكيلي. ولربما ما كان يعجز عنه الكلام أحياناً في تصوير المواجهة الدائرة في سورية اليوم مابين الشعب الذي يقدم التضحية تلو التضحية والنظام الذي يرتكب المجزرة تلو المجزرة، كانت لوحة كاريكاتورية لعلي فرزات تستطيع رسمه بتعبيرية بليغة وبسخرية رصينة وبشعرية قل مثيلها. قصة الفنان علي فرزات مع النظام السوري أصبح يعرفها القاصي والداني، وهذه الحادثة التي تضاف إلى رصيده في الإجرام إن تؤكد على شيء فهو أن لا سياسة في ‘سورية الأسد’ ولا ثقافة ولا صحافة ولا إعلام ولا مسرح ولا سينما ولا فن ولا إبداع ولا… ولا… إلخ. ما في جعبة السلطات السورية هو شيء وحيد، كانت قد أفرغته في الماضي في جسد سمير قصير قبل علي فرزات. أما الكاريكاتير الأخير الذي رسمه الفنان السوري قبل الهجوم القبيح الذي تعرض له، فهو يصور ميزانا ترجَحُ فيه كفة المحبة على كفة العدوان، بالرغم من بساطة أدوات الحب مقارنة بأدوات الحرب المدمرة والفتاكة. وهذا ما يلخص إلى حدٍ بعيد مآل الثورة السورية بغض النظر عن الصعوبات التي تعترض طريقها، لأن قانون الحياة البشرية يقضي في نهاية المطاف بانتصار الحق على الباطل وبعلو صوت الحرية على دوي المدفعية.
شيخ التشكيليين السوريين، المبدع يوسف عبدلكي، لم يكن موقفه أقل وطنية وأصالة من موقف علي فرزات، إذ رفض الالتزام بالصمت حيال ما يجري في سورية، وهو الذي عاد إليها بعد غياب استمر نحو ثلاثين عام، كانت مدعاته حالة البؤس السياسي والثقافي التي كرسها حزب البعث منذ توليه زمام السلطة في البلاد. فبالنسبة لعبدلكي الحيادية هي أسوأ المواقف التي يمكن أن يتخذها المثقف في لحظات تاريخية ومفصلية يعيشها مجتمعه، وخصوصاً في بلد مثل سورية يحاول أن يستعيد جماليات التعبير، بعدما كان قد جُرِد منها منذ حوالى نصف قرن. أما عن التضحيات الرائعة التي يقدمها أبناء الشعب السوري من أجل المضي بوطنهم من ‘الحقبة البوليسية إلى حقبة المواطنة’، فيقول عبدلكي : ‘لو كنت أملك قوة خارقة لأعدتهم كلهم إلى الحياة ليساهموا في إعادة بناء بلدنا، وليحبوا، ويتزوجوا، ويربوا الاطفال، ويشربوا الشاي مع اصدقائهم. إن ما يصنعه النظام بأبناء بلدنا جريمة ضد الإنسانية’. صحيح أن الفنان لايملك أن يرُد الشهداء إلى أمهاتهم وذويهم، لكنه يستطيع أن يُخلِد ذكراهم من خلال تصاويره الإبداعية. فـ’شهيد من درعا’ و ‘شهيد من درعا 2’، هي ليست بطاقات تعزية كان يريد أن يقدمها يوسف عبدلكي لأهلنا في حوران، بل تحف فنية ستذكّر الإنسانية على الدوام بما جرى في مدينة درعا، كما تذكرنا إلى اليوم لوحات فرانشيسكو غويا بما حدث في تلة برينسيب بيو في مدريد من إعدامات للثوار الإسبان على يد الطاغية نابليون.
أما روائياً، فكان موقف الكاتبة والصحافية سمر يزبك من أكثر مواقف الروائيين السوريين جرأةً وتحدياً للنظام السوري الذي يجهد في اصطناع الأكاذيب للنيل من صورة المتظاهرين السلميين بالعمل على إظهارهم كرعاع ومسلحين. وعلى موقفها الشجاع بالوقوف إلى جانب الثوار، هُوجِمت الروائية السورية، وهي ابنة الطائفة العلوية الكريمة، هجوماً عنيفاً ووجِهت إليها اتهامات وادعاءات باطلة، لابل وصل الأمر إلى تلقيها العديد من رسائل التهديد والوعيد، باعتبارها ممن خانوا الطائفة والوطن. وهنا نورد هذه المقولة لإيمانويل ليفيناس التي توضح إلى حدٍ كبير ‘حالة’ المثقفة يزبك الاستثنائية : ‘للانتقال من الشخصي إلى الكوني، يقول ليفيناس، يجب أن تحدث خيانة على مستوى الذات’. وهذا ما قامت به مؤلفة ‘الصلصال’ عندما كسرت من حولها القيود الفردية لتتماهى مع الآخر ولتنتمي إليه. فـ’خيانة’ سمر يزبك ليست خيانة ‘يهوذية’ بل فعل من طراز أخلاقي نبيل يأخذ بالمرء من الضيق إلى الرحب ويحلق به من الشخصي إلى الإنساني ويعتلي به من الفئة إلى الكل.
بيد أنه ليس جميع المثقفين السوريين كانوا قد وقفوا على مسافة واحدة من الحراك الشعبي الذي يكاد يعم معظم المدن والقرى السورية. ففي الوقت الذي كانت فيه الفنانة فدوى سليمان خير من أجاب على تساؤل فوكو الشهير ‘ألا ينبغي القيام بشيءٍ آخر غير الأدب في زمن الأزمات ؟’، عندما قررت أن تقرن القول بالفعل بانخراطها في صفوف الثوار، كان هنالك حالات من التوجس والحذر والتخوف والتشكيك قد أبداها بعض المثقفين إزاء خروج الشعب السوري عن صمته ومطالبته بالحرية والعيش الكريم.
‘افرحوا!/ افرحوا واطمئنوا!/ عمّا قريب/ كلّ هذه الأزهار ستغدو عتيقة وفاسدة/. تُرى، كم يتوجّب علينا أنْ ننتظر لنشهد ولادة ربيعٍ آخر؟’. يخطىء من يعتقد أن هذه الأبيات لعلي عقلة عرسان أولـ’الشاعر’ مصطفى طلاس، بل هي لمؤلف ‘الله قريب من قلبي’، نزيه أبو عفش، الذي أعرب عن ارتيابه مما يحدث في بلده اليوم ، رافضاً أن يرى في ذلك نوعاً من أنواع الثورة أو التمرد ضد استبداد السلطة. أبو عفش لم يكن مرتابا فقط من خروج الناس إلى الشوارع لاستعادة كرامة مفقودة منذ سنين فحسب، بل وخائفا من أن يتهدم البيت السوري على رؤوس الجميع، متجاهلاً أن من يقصف حمص وحماة والرستن والقصير ودير الزور ورنكوس و…و… بالأسلحة الثقيلة ليس خالد أبو صلاح ومي سكاف بل قيادات القصر الجمهوري في قاسيون. أما موقف أدونيس فكان مشابها لموقف أبو عفش، لكنه كان أكثر سفسطائية. فصاحب ‘النظام والكلام’ يحلم من منفاه في باريس بثورة تخرج من المسارح ودور الأوبرا في بلادٍ فيها مسرحان لاغير هما مسرح اتحاد نقابات العمال والمسرح القومي. أما المدن والقرى السورية التي ليس فيها مسرح كإدلب ويبرود وجسر الشغور ومعرة النعمان فحرام عليها الثورة والتغيير إلى أبد الآبدين، بحسب منطق الرؤيوي أدونيس، الذي بعث أيضاً برسالة إلى بشار الأسد نشرها في جريدة السفير ينصحه فيها بالاستقالة من منصبه الرئاسي، وكأنه قد غفل عنه أن هذه الأخير لا يطالع سوى التقارير المكدسة على سطح مكتبه المُرسلة من شُعب المخابرات والأفرع الأمنية.
صرخات حرية في مختلف فضاءات التعبير، هكذا بدا المشهد الثقافي في سورية ما بعد الثورة. صرخات حرية تنبع من أفئدة المبدعين السوريين الذين كان يعتريهم الجوع إلى الكلام والعطش إلى الخلق جراء مناخات التعليب والتجويف التي سادت صحراء ‘سورية الأسد’ الفكرية. صرخات حرية قامت بزعزعة وتهديم ‘مونوليتيك’ الحياة الثقافية السورية، التي طالما سيطرت عليها السلطة والمثقفون السلطويون من الألف إلى الياء. صرخات حرية تَعِدُ أيضاً بكتابة تاريخ سورية الجديدة من الألف إلى الياء.
*كاتب سوري مقيم في ألمانيا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى